قيل في أحد الأمثال العربية القديمة: "من عاشر القوم اربعين يومًا صارَ منهم"، إن لهذه المقولة الشهيرة وقع حقيقي في حياتنا، ويتبرهن ذلك من خلال التجارب التي يخوضها كل شخص منا عند انضمامه لمجموعة معينة من الناس على الصعيد العام، يتواصل معهم بشكل دائم فيتأثر بهم يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم وما إلى ذلك..
قد لا يختلف اثنان على انتماء الفرد الذي ينضم حديثًا للمجموعة ريثما يلتقي بهم مرتين أو أكثر، يتبادل معهم أطراف الحديث ويشاركونه في المأكل والمشرب فيروق لهم ويألفون وجوده بينهم، فما بالك بالذي يعاشرهم لفترة طويلة من الزمن؛ قد تكون لعدة أشهر أو أعوام كالجيران مثلًا أو زملاء العمل، وربما مدى الحياة كمن تربطه معهم روابط أُسرية؟.
من المؤكد أنه سيصبح واحدا منهم ومحسوبٌ عليهم، لكونه بمرور الوقت سيشاركهم أغلب تفاصيل حياتهم والعكس، وهذا أمر بديهي لابد من حدوثه جراء الاختلاط المتواصل وتعمق العلاقات وامتدادها بمرور الأيام..
وقد يحدث للفرد أن يعاشر فئة معينة من الناس ينتمي لهم ويبادلهم كل شيء، لكنه لايشعر بالانتماء الحقيقيّ إليهم! ويعود السبب في ذلك كونه لا يتشابه معهم في الطباع أو بعض الصفات الغير محببة، أو لا يتقبل أسلوب الحياة الخاطئ الذي ينتهجوه ولا يرضى عما يقومون به من حماقات وأذى لبعضهم البعض؛ كتضخيم المشكلة الصغيرة أثناء حدوثها وجعلها تكبر
وتتشعب بدلًا من حلها، أو صمتهم المعهود تجاه تلك الخلافات المصيرية المستمرة التي تنشب بين الأفراد، بل وهناك من ينافق بينهم ومن يكذب ومن يُخرّب عمدًا والجميع يعرفون بعضهم جيدًا ويعلمون من هو المسؤول عن المصيبة الحاصلة ومانوعها؛ لكنهم يتغاضون عنه ولا يحاسبوه بل يمدون له يد العون لأجل مصالحهم الخاصة وتجنب مساس أنفسهم بضرر ما!.
هنا لا يشعر الفرد المنتمي من الخارج بإنتمائه الفعلي لهؤلاء القوم -صحيح أنه أصبح منهم وفيهم ولكنه ليس مثلهم- كون أسلوبه وصدقه ونقاء سريرته وأفكاره لا تتناسب مع أجوائهم المتقلبة والمتقولبة، وبذلك يدخل معهم في صراعات لا تنتهي ومعاناة تطول يصعب عليه التخلص منها لاسيما أنه مجبر على التأقلم معهم والتنازل لهم بل وحتى الصمت والكبت وعدم المطالبة بحقوقه مثلما يفعلون لأنفسهم كونه "لا يتقن ما يتقنون" يخاف الله ولايحبذ زعزعة أمن حياته بلا ضمان لعودة المياه إلى مجاريها!.
والأدهى من ذلك برمته أن أولئك القوم يتربصون لذاك المنتمي المختلف عنهم ويضمرون له شر ماعندهم رغم أنه يحمل عنهم عبئا لا يتحملوه، ويدركون مدى تضحياته وأهمية وجوده بينهم وحقيقة جوهره ومكانته، وفور حصول أتفه خلاف يكون هو مجرد طرف فيه ليس له يد بحدوثه حقًا؛ يجد أقربهم إليه يتهمه بأبشع الاتهامات ويوجه له أفضع الكلمات ويحمّله كافة المسؤولية عما يحدث الآن وما حدث في السابق وما سيحدث لاحقًا وهو بريء من كل شيء مع سابق العلم والمعرفة!.
وبين مشكلة تجترها أخرى قد ينفذ الصبر وتبدأ الذات الغاضبة بالثوران وترتفع نسبة الكبرياء لأعلى مستوى من الخطورة ، وتتأجج نيران الشعور بالظلم والاضطهاد فيندلع صراع عنيف في عمق خلجات النفس تحت خيمة حزن كبير يعتصر القلب، ندم على طيبة مُداسة غير معترف بها، وسكين ملامة حادة تذبح شريان المودة وتُقطِع أوردة الوصال التي تمتد من طرف واحد في دائرة ليس بوسعه الخروج منها وذلك لكونها دائرة!.
من الصعب التحكم بالنفس حينما تواجه ضغطا عنيفا من جميع الجهات وقد يستحيل السيطرة على ردود الأفعال المتوقعة جراء الاعتداء والتي إن حدثت ستدمر كل شيء؛ وكثيرًا ما يحصل ذلك لدى الغالبية، ولكن هناك الجميل الذي يتمسك بإيمانه ويحافظ على رباطة جأشه في أحلك الظروف حتى يخرج منها سالمًا معافى!.
ينبغي على الفرد المبتلى أن يتصالح مع ربه ونفسه اولًا ويختار الصبر على الأذى ويتحمل من قومه كل ما يبدر منهم تجاهه ويحاول توضيح الأمور ومد جسور التفاهم والتسامح حتى يعود الأمان لربوع القلب، فيهدأ البال ويرتاح الضمير.
عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) قال: "الْمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على اذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم".
وقال تعالى: (ولمن صبر وغفر إِن ذلك لمن عزم الأُمور) [الشورى:43] ، (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) [النحل:126] ، (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا )[المزمل:10].
فما أجمل أن يكون الفرد ملتزمًا بما أوصاه به الله ورسوله، يتأمل يُسرًا بعد كل عسر وينتظر جبرًا بعد كل كسر، يسلم أموره بيد الله ولا يتبع النفس الأمارة بالسوء ليرد السوء بمثله، فمهما ظنوا قومك بك سوءًا واتهموك بالباطل وسخروا من طيبتك وصوروها مكراً وخداع، وضحكوا عليك واستهانوا بمعاناتك، لا تضعف ولا تحزن "فكل يرى بعين طبعه" فإياك أن تكن مثلهم لترغد بالعيش الفاني وإنما كن منهم ولهم لتنعم بالعيش الباقي، ومن يضحك أخيرًا سيضحك كثيرًا مادام صابرًا محتسبًا متوكلًا على الله شاكرًا نعمته، يعطي أكثر مما يأخذ ويتفائل بالخير في كل وقت وحين، وكما قيل: الأجر على قدر المشقة، ومهما طال ظلام الليل سينقشع بعودة نور الصباح.
اضافةتعليق
التعليقات