كان يستطيع أنْ يشهر سيفه ويقتصّ من عدوّه، أنْ يثأر ممن آذاه، كان بوسعه أن يرد على من ظلمه، ولو فعل لما لامه أحد، فالحق معه، والأهم من ذلك السلاح بيده، والأهم من ذلك كله أنَّ الواقف أمامه عدو وليس صديق فهو لا يستحق الشفقة!.
كان سيقدم على ذلك لولا ذلك الصوت الداخلي الذي ذكّره بحكمة أميره.. التقط نفساً عميقاً وتراجع خطوة إلى الوراء، أعاد السيف إلى غمده وآثر أن يترك مبدأ "العين بالعين والبادئ أظلم"، وبدل أن يعمي عين عدوّه، فُتحت عين أخرى داخل قلبه وأزهر قلبه وروداً بيضاء بدل الأشواك!.
نحن لسنا أمام قصة بطل واجه عدوّه في ساحة المعركة واختار العفو عنه بدل الاقتصاص، إنها قصة وتجربة وموقف مرّ به الكثير من الأشخاص الذين اختاروا طريق مُزهر يُسقى بماءٍ عذب، بدل الطريق الوعر الشائك الذي يُسقى بماءٍ آسن.
نعم، جميعهم أبطال لأنهم قابلوا عدوّهم بالرحمة، مع أنّ جميعهم امتلكوا السلاح وهو: القدرة، _بكافة أشكالها وأدواتها_ ولكن بقيت خطوة واحدة وهي الحصول على عين الماء التي انبثقت في قلب صاحبنا، والسقي المستمر في تجربة بقية الأبطال. فما هي ياترى؟
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام):
"إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه".
بدايةً اشترط الأمير وجود القدرة، إذ لا معنى للعفو أو سيكون باهت اللون إن لم يسبقه الاستطاعة على عقاب الجاني، فإنْ لم تكن تملك سيفاً تتمكن أن تأخذ حقك من خلاله، فقيمة التسامح ستضعف لأنها غير مسلّحة بالمقدرة.
فالعِبرة هي أنكَ قدرتَ على خصمك ثمّ عفوت عنه، وربما ذكر ذلك الامام لأنّ خيار العفو سيكون صعباً على النفس وشاقّا عليها وهي التي ظفرت وتريد أن تتذوق نشوة النصر، ثم آثر صاحبها المسامحة فتزداد بذلك فضيلة العفو.
وكذلك ذكر الامام لفظة "العدو"، وهذا أيضا موقف صعب، فصديقك أو قريبك الذي أساء إليك أو قصّر معك بغير قصد مثلاً، ليس كمثل من ظلمك وآذاك وعاداك عن سابق معرفة وإصرار.
وتبقى نقطة لطيفة ختم بها الامام نهجه الاصلاحي التربوي الذي اختصره بكلمات قلائل، وهي اعتبار هذه المقدرة "نعمة"، والنعم تستوجب الشكر، و"بالشكر تدوم النعم" وهي من درر كلامه في موضع آخر.
والشكر على تلك النعمة هو تلك العين التي ذكرناها وتساءلنا عنها، وذلك الماء هو الذي كان سبباً في نمو الأزهار، وباستمرار السقاية _أي دوام الشكر_ ينقلب قلب المؤمن إلى حديقة غنّاء. وهذه أيضا نعمة إلهية منّ الله علينا بها، وإن أردنا أن تدوم الخيرات فعلينا بزيادة الشكر، فعلينا بكثرة العفو والتسامح ونشره في المجتمع واشاعته بين الأفراد.
ونقطة اعتبار القدرة شكرا هي مهمّة جداً، لأنها تربط الانسان بربه وليس فقط بنفسه وبالاخرين، فالكثير قد يدعو للتسامح من باب اختيار راحة البال بدلا عن الهمّ والكدر الناتج عن الحقد، أو تجنباً للمشاكل مع الآخرين، لكن الامام صلوات الله عليه ذكّرنا بكون هذه المقدرة هبة من الله، والهبات إن أردنا دوامها فعلينا بشكر خالقها قولاً وفعلاً.
تتجلى روعة كلمات الأمير وسياسته في اللاعنف في عدة وجوه واستخدامات، ومنها تسامح الانسان مع نفسه، ومع الأسرة والعشيرة والأصدقاء وبين أفراد المجتمع والمؤسسات وحتى بين البلدان والدول التي كان بينها نوع من العداء أو المخاصمة.
فالعفو مفتاح للكثير من الفضائل والقيم وبسببه سيعمّ الخير والسعادة والروح الايجابية.
ونشير هنا إلى خطورة العقل الجمعي الذي يروّج لمفاهيم خاطئة ومنها أنَّ عدم التسامح يولّد القوة في الشخصية والمهابة، والحقيقة هي أن التسامح قوة؛ قوة التغلب على الشيطان والهوى اللذان يشجعان على الضغينة والنزاع.
والحديث عن قيمة التسامح يذكّرنا بالكثير من الحوادث والقصص في التاريخ القديم والحديث، ومنها أنّ العرب خاضوا قديما، إحدى أطول الحروب وأقساها، وهي "داحس والغبراء"، كانت بين فرعين من قبيلة: عبس وذبيان، ودامت أكثر من 40 سنة، واشتركت فيها العديد من القبائل.
أغلب حروب الجاهلية كانت لأسباب تافهة، ويقال أن سبب هذه الحرب هو رهان على سباق فرسين وكان اسمهما: داحس والغبراء. تقدمت داحس في السباق ولكن رجلا وضع كمينا لها وفازت الغبراء، اكتشف الآخرين الأمر ولم يشاؤوا أن يتجاوزا عن تلك الاساءة واشتعلت الحروب بينهما وقتل الكثير من الرجال في تلك المعارك ومنهم: عنترة بن شداد.
انتهت هذه الحرب الطاحنة أخيرا بتدخل رجلين من القبيلة حيث تكفّلا وأديا ديات القتلى وأطفآا بذلك نار الحرب.
قد نضحك ملئ فمنا على هذه القصة، لكننا في الكثير من الأحيان ننتهج هذا الخيار ونتخاصم ل 40 دقيقة أو ساعة أو يوما أو شهرا.. بأدوات ووسائل ولأسباب متعددة جلّها تافهة، نشعل نار الحقد والحمية والتعصب الأعمى وكنا نستطيع أن نطفئها بالتسامح والعفو والتجاوز عمن أساء وظلم، وكنا سنوفر بذلك الوقت والجهد والعواطف لما هو أسمى.
فلا تستخدموا طاقتكم لتحقدوا وتنتقموا وتردوا الصاع صاعين، بل استخدموها للتسامح والعفو وشكر الله على قدرتنا على عدوّنا، فرغم مرارة ما واجهتموه إلا أنَّ العفو حلو كالسكر، ألا نحب أن يعفو الله علينا؟، بلى، يقول تعالى في كتابه الحكيم: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم).
الحياة قصيرة، بل قصيرة جداً، فلننتهج ولننشر ثقافة أمير المؤمنين في العفو على العدو عند قدرتنا عليه فإن "العفو تاج المكارم".
اضافةتعليق
التعليقات