لما لبى إبراهيم بن الحصين الأسدي-أبي إسحاق- لنداء إمامه الحسين (عليه السلام) في ملحمة عاشوراء، قيل(١) إنه ارتجز مردداً:
(أقدم حسين اليوم تلقى أحمدا * ثم أباك الطاهر المؤيدا
والحسن المسموم ذاك الأمجدا * وذا الجناحين حليف الشهدا
وحمزة الليث الهمام إلا سعدا * في جنة الفردوس عاشوا سعدا).
لعل أول إستفهام يخطر في الذهن إنه كان هو المتقدم لساحة القتال، وهو الذي سيلاقي مصرعه على يد الأعداء، وإنْ هو سيقتل منهم مقتلة عظيمة، فمصيره معروف ألا وهو الشهادة؛ فالإمام الحسين (عليه السلام) قد أنبئهم: "فإنه من لحق بي منكم استشهد"(٢).
بالنتيجة جواب هذا التساؤل يوصلنا إلى إنه لم يكن يُفكر بأن يُحدث نفسه كي تُقدِم وتَتقدم لتقاتل دون الإمام مناصرًة، بل كلامه يوحي إلى إنه بالأصل لم يكن تفكيره في هذا العالم، إنما هو ممن روحه قد عرجت قبل أن تعرج.
فقد فتح الإمام له بصيرته وأراه مقامه هناك، كما ورد "فلما رأى الحسين (عليه السلام) حسن إقدامهم وثبات أقدامهم قال (عليه السلام): "إن كنتم كذلك، فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم في الجنة. فكشف لهم الغطاء ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها، والحور العين ينادين: العجل... العجل فإنا مشتاقات إليكم! فقاموا بأجمعهم وسلوا سيوفهم وقالوا: يا أبا عبد الله! ائذن لنا أن نغير على القوم ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء. فقال (عليه السلام): "اجلسوا، رحمكم الله وجزاكم الله خيرا"(٣).
وها هو منتظر قدوم سيده الحسين (عليه السلام) حيث مجاورة من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، فما أحسن هذه الرفقة، وما أسعد تلك الروح لما ستناله من مَقرُبة، وما أجمل هذا المصير الذي لا تفصله عنه إلا أن يكون ممن يُقاتِلون ويُقتَلون في سبيل الله تعالى، وبين يدي سيد شهداء الجنة.
لذا هو لما قتل منهم(٨٤) رجلاً، كان قد ردد قائلاً:
(أضرب منكم مفصلًا وساقًا * ليُهرَق اليوم دمي اهراقا
ويرزق الموت أبو اسحاقا * أعنى بني الفاجرة الفساقا).
فكم كلماته هذه تكشف عن حقيقة تلك الروح المقدامة التي لم تهب كثرة العدا، بل -وكأن- لسان حاله ومقاله يقول لهم: أنا بمفردي سأشل حركتكم وسأقطع أقدام كل من يقابلني من المفصل فأسقطه أرضا، فيصبح عاجزًا منتظرًا لمصيره الأشقى.
ثم بهذا الشطر[ليهرق اليوم دمي اهراقا] كأن في ذلك إشارة إلى أنه يقول: نعم سأُقتَل لكن ليس بضربة واحدة من أحدكم، بل سأثخن بالجراح حتى ينسكب دمي ويسيل ثم أعرج بعد ذلك شهيدًا، فلعلي أواسي بذلك سيدي وما سيجري عليه عندما يبقى وحيدًا وقد تجتمع فيه كثرة جراحات القلب والبدن بلا إخوة ولا أبناء، بلا صحبة ولا أنصار.
اضافةتعليق
التعليقات