إنها الحياة.. النعمة الأزلية، المنبعثة من روح الكون الممتزجة بالماء والتراب والهواء والنار، إنها المساحة الشاسعة التي تضم بين ذراتها سبعة ميليار نسمة، إنها المعجزة اللامتناهية بقلب التاريخ.. هل من الممكن أن تضيق بأكملها لأنهم خصموا جزء من راتبك؟! أو لأن ذلك الشخص أحرق قلبك، أم لأن زوجتك لم ترتب الثياب كما تريد أو لأن زوجك لم يحتفل بليلة ميلادك!.
قبل مدة كان أحد الأشخاص يعيش أزمة نفسية حادة قد حطّت أجنحتها على ملئ عالمه كالشبح الأسود وأبدلت جميع ما به إلى سواد قاتم.. قلَّ طعامه وشرابه، تبدّلت ملامحه إلى شحوبٍ هزيل، إنجذرت كل بهجة كانت متصلة بأرضه، وانتحرت العصافير المغردّة برأسه وأبدلت مكانها بنعيقِ غربان لا يهدأ.
حاول أصحابه بأن يضعوا الذنب على عاتق الحسد والسحر والأمراض الروحية ولكنه لم يوافقهم الرأي بالكامل فهو يعلم أين إنعقدت ربطة الفَرس ومنعته عن الإنطلاق، يعلم أن بذرة المعاناة تعود إلى ذلك اليوم الذي شقّ به مدير عمله مخطط المشروع الذهبي الذي تعب لرسمه شهور متواصلة على أمل ان يقبلوا به وحين تم رفضه لم ينسحب عن العمل فحسب بل عن ساحةِ الكرة الأرضية وما تحمل بأرضها من انهار واشجار وعمارات وبنايات.
كان التجاهل والتصالح مع المشاكل الطارئة احياناً علاجا فعالا يضيف بعض الإستقرار النفسي للروح ويسكنّها ولكن لم يستجيب معه هذا الدواء الحياتي لذا تقدّم إلى استشاريٍ نفسي يقدّم له الحلول الأنسب للخروج من دائرة الألم وفورانها.
جلس أمام الدكتور يُفرغ لوعات نفسه بلا هوادة ومع كل جملة يتلوها كانت تصاحبها كلمة المدير، سطوة المدير، قسوة المدير... لم يمنعه الدكتور عن التكلّم وحين أتمّ ما لديه، أخرج الدكتور من درجه خريطة العالم، هي نفسها الخريطة التي أعدنا النظر إليها في الصغر تباعاً حتى الحفظ. ثم طلب منه الإمعان والتركيز وكررها عليه لثلاث مرّات: قل ما تراه بوضوح...
أجابه الشاب؛ أرى صورةً مُهيبة لكوكب الأرض وماعليها من التلال والجبال، الأنهار والبحار.. القارّات العظيمة والمناطق المحتشدة بداخلها كجيوش النمل، أرى العالم الكبير لخالقٍ أكبر وأقدر.
حدّق إليه الدكتور بصرامة وقال؛ أمن العدل أن تتجاهل سعة العالم ووفرةِ نعمه مقابل فضاضة مدير عملك؟!
إنها الحياة، النعمة الأزلية، المساحة الشاسعة التي تضم بين كنفيها سبعة ميليار نسمة، تجاوز صفعات الهادمين وإبني حطامك وإنطلق، لا تقبل الحياة الضيقة.
اضافةتعليق
التعليقات