الرحلة طويلة، هذا ما أدركه البشر عند بزوغ النور الأول وعند تجلي الخطوة بعد الخطوة نحو نهاية ليست ببعيدة جداً ولكن.. مابينَ هذي وتلك، محطة حياة، تُرسم فيها أقصر الخُطى وأعظم الأبعاد.
فُطر البشر ومنذ الأزل على (لماذا) الفضول، فمنهم من ترهقه فكرة الوجود بلا دليل وآخرٌ يريد أن تخبره الحياة عن وجهها المخفي، موّرثين إجاباتهم إلى الأجيال التي تليهم، كموروثٍ صوري (الرسم) تلتها حافظة مشتركة حتى وصلت إلى الورقة الناطقة، ولكن قد يدور السؤال ويعود إلى النقطة الأولى، لماذا تشبّ ثورة التدوين والكلٌّ في نهاية المطاف.. سيرحل؟
"أكتبُ لأكون، لأميّز اللحظة واستنزل السكون" هكذا بدأت إحدى الكاتبات كلماتها عندما سُئلت عن معنى الكتابة المحكومة بالرحيل، ويذكر الكاتب الراحل د.واين داير جملتهُ الشهيرة: "أنا الكتابة والكتابة أنا" ليعطي نفسه هوية الحرف في كل العوالم، فيتبادر السؤال: هل هناك خلود للكتابة بعد الموت؟
تمرٌّ الكتابة كبقية الموجودات بدورة حياة أو ما أسميها بدورة خلود، فعندما يبدأ الكاتب بقرار الكتابة فهذا قرارٌ يعتمد كلياً على المشاعر، فالكتابة تستند بشكل كبير على صقل مشاعر الكاتب والمتلقي والتي ترتبط بشكل مباشر مع روح الإنسان، فالكلمة المدوّنة تحمل تجربة شعور قد يلامس بها الكاتب تجربة القارئ وقد يتجاهله.
أن تتعامل مع المشاعر هذا يعني أنك ترسم مسارات صحيحة للروح وبهذا ترسم شكل الخلود الذي تود أن تكون عليه، لربما في الدنيا وبشكل مؤكد في الحياة الأخرى.
بعد امتداد الجذر الأول للكتابة وهي (المشاعر) كما وضحتُ آنفاً، لابد أن يستند خلودها على جذر الفكرة، فما يميّزها هو أنها تنبع من الفكرة وإلى الفكرة، فعادة ما يُصنَّفُ الإنسان أو يُحكم عليه تبعاً للأفكار التي يتبناها والتي يستنطقها في حياته، فالكتابة التي تسيرُ مع هذا الخط العظيم الذي يحكم حياة البشر ويشكّل معناها، هل يعقل أن تكون رحلتها دنيوية فقط؟!
الهويّة، وهي الجذر الأهم في تشكيل الساق الكتابي المتين، لماذا الهوية مهمة؟ الهوية ليست انتماء عرقي أو قومي فحسب بل هي انتماء عقائدي ناطق، والعقيدة هي التي تحدد في أي فريق تشاء أن تكون.. الآن وللأبد، لذلك عندما تعكس الورقة عقيدة صاحبها فهذا يعني أنها تُعلن هوّيته التي تحمل على عاتقها تحديد وجهته.. في كل العوالم وما زلت أؤكد على هذه الفكرة.
المشاعر، الفكرة والهوية، إن تأملنا هذه الجذور الثلاثة مطولاً قد ندرك وبلا شك أن السعي الروحي هو الوجه الآخر لما يسمى بالكتابة الهادفة، فالروح خُلقت للخلود، وأنتَ الذي تختار زمانَ ومكانَ وشكلَ خلودها.
ومن أعظم المخطوطات التي تداولها التاريخ الإسلامي الذي حملَ على عاتقه الحفاظ على المزيج المتجانس بين الشعور والفكرة والهوية، هي رسالة (توحيد المفضل) الذي دوّنها المفضّل بن عمر الجعفي الكوفي، أحد تلامذة مؤسس المذهب ومنبع العلوم الدنيوية والأخروية، الإمام جعفر الصادق (ع)، ردّاً منهُ على أحد الملحدين الذي أنكر فضل رسول الله (ص) ووجود الخالق جلَّ وعلا.
تضمٌّ هذه الرسالة والتي تُعتبر دلالة عظيمة على سمو الفكرة وشأن الكتابة في توجيه هذه الفكرة، عللَ خلق الإنسان وكونه ومنها ما شمل عالم الحيوان وعالم النبات، فإن شاء الإنسان أن يذكر مغزى الكتابة فحريٌّ عليه أن يستشهد بمدرسة الإمام الصادق (ع) التي دوّنت علم الأرض ليكون للإنسان طريقٌ في السماء، فقد ترجمت بُعداً روحياً لكل الجوانب المادية التي تطرقت لها، كعلوم النجوم والأفلاك وعلوم الأمراض والجراثيم وعلوم الكيمياء والمتضادات، وهو تفعيل البصيرة التي تسمو بالإنسان نحو معرفة من خلقه ومن ألهمهُ "ن والقلم وما يسطرون"(1)، فقد قال الإمام الصادق (ع): "القلبُ يتكلُّ على الكتابة"(2)، فالقلبُ يتفقهُ بالحرف.
ختاماً، كما يقول أحد الحكماء: "البرج الوحيد الذي يصل إلى السماء هو القلم"، ولكن بشرطه وشروطه، والحكمة والدين هما سيدا الشروط.
اضافةتعليق
التعليقات