بصوت خافت يهمس الجد في اذن ابنته ويهنئها بوليدتها الملائكية: مبارك لكِ يا ابنتي، اعتني بطفلتك هذه فأن لها شأن عظيم في هذه الدنيا وهي سوف تنشر رسالتي في مدينة اسدل الستار على عقول ساكنيها، سوف ترى من المصائب ما لم يراه احد من هذه البشرية جمعاء.
فتغرق عيون الام بالدمع وهي تنظر الى وجه ابنتها الملائكي، كيف ستغيره الايام والسنين، فكبرت هذه الوليدة وكانت مرهفة الحس، جميلة في وجودها مشعّة في صلاتها، رحلت والدتها وهي لم تبلغ السابعة من عمرها، صقلت شخصيتها فأصبحت قادرة على تحمل لوعة الفراق بصبر وايمان فحاولت ان تكون اما لأبيها كما كانت امها الزهراء ايضا اما لأبيها.
و اذا بالسنين تمر مر السحاب، وكأنها لمحة بصر و اذا ملك الموت يحط رحاله ثانية عند باب دار زينة ابيها (زينب) ليعرج بروح ابي تراب الى بارئه وها هنا ينكسر قلب زينب ثانية فيكفكف دموعها اخيها الاكبر ويحتضنها بين ذراعيه فتحس قي حنانه حنان الاب الذي ترى جثته أمام ناظريها وهو مخضب الرأس بسيف الغدر والخيانة، فتسلّم امرها الى معبودها بالتحميد.
بقيت زينب بعد فراق ابيها حزينة لكنها كانت مسلّحة بسلاح الايمان والعقيدة الكافية لتتصبر وتتجرع هذا الالم لأنها تعلم ان مهمتها لم تبدأ بعد، وايضا تجر السنين اذيالها متربّصة بآل بيت الرسول وقلب زينب الكسير و اذا بها تدخل حجرة الدار فترى طستاً مملوءا دما واخيها الاكبر يتقيأ كبده من شدة السم الذي سقته اياه بنت الاشعث، فجرت دموعها وماذا عساها تفعل فتراه وتقول: في أمان الله يا اخي أوصل سلامي الى امي الزهراء..
ومن هنا بدأت حكاية زينب، نقض طاغي العصر وهو معاوية ابن ابي سفيان شروط الصلح التي عقدها معه الامام الحسن (عليه السلام) على ان مات الحسن قبل معاوية فإن الحسين هو من يستلم الخلافة، لكنه نقض وسلّمها الى ابنه يزيد وما كان على الامام الحسين ان ينهض نهضته ويحافظ على الدين الذي مابقى منه الا القليل فما كان من زينب الا ان تكون له سندا وعونا ليواصلوا مسيرة جدهم، فعرجوا بقافلة العشق يتقدمها فوج من الملائكة ووصلوا الى حيث هناك ارض يقال لها الغاضرية او نينوى، تعددت مسمياتها وقيل (كرب وبلاء) اي كربلاء.
فحطت القافلة رحالها هناك وبدأت تتهجد الى الله لتتزود بجرعات العشق لتحارب بها جراثيم الأمة فكانت زينب ككل من كان في القافلة تناجي معبودها ليلهمها الصبر، وعند الصباح بدأت المعركة وتلاقى الجيشان الغير متكافئين من الناحية العسكرية اي من ناحية العدد وحتى العدّة كان جيش الامام الحسين عددهم يقارب السبعين رجلا او يزيدون اما جيش يزيد فكان ما يقارب السبعين الف مقاتل، يتصدرهم قائد كان حلمه الاكل من قمح خبز ملك الري، يهمس في داخله: كيف لي ان أقاتل سبط النبي؟ ولكن كيف لي التخلي عن ملك الري؟ والى جانبه شخصا فضا غليظ القلب كان له بوز كبوز الكلب ابقع متعطش لسفك دم الحسين، يقال له الشمر.
فبدأت المعركة ودار النزال و اذا بأصحاب الحسين وجميع اهل بيته من الفتيان قد قتلوا جميعا تناثرت اجسادهم كالورود، قتلتهم الفئة الباغية، ولم يبقَ للحسين من احد، ماذا يصنع؟ شريعة رسول الله تنتظر من يحييها فكان دم الحسين هو العقار المنتظر لإحيائها، لكن من سيقدم له جواده؟ درعه؟ لا احد! الجميع رحلوا فتقدمت زينب وقدمت الجواد لأخيها الغريب، وكأنها تقول: ما اقسى قلبي يا ابن امي أأُقدم لك جواد المنيّة؟ دين جدنا رسول الله يتطلب ذلك، امضي تحرسك عين الرحمان، فودعت اخيها وهي تتكتم على مشاعرها.
ويمر الوقت ويعود لها جواد أخيها ملطخ بالدماء، خالي من فارسه، علمت أن إمامها رحل، امسكت زمام قلبها وبدأت توجه، تداري، تصبّر العيال تشد الجلابيب وتستر الوجوه، كان الحياء يكتسيها، كانت طودا شامخا، تحملت المصاعب والألم لتكمل ما بدأ به اخوها.
فتحرك موكب السبي والنسوة مشدودات بالحبال بكل وحشية والسوط يتلوّى على ظهورهن فدخلوا الى المدينة المعروفة بغدرها، رائحة دم مسلم ابن عقيل تكسوها فتفضح خسّة ساكنيها في تلك الايام، فوقفت الهاشمية المكبّلة في مجلس الارقط كالأسد تحمل سيف علي في لسانها وعفّة الزهراء في حيائها، فقال لها مستهزءا: كيف رأيتي صنع الله بك؟ ماكان من لبوة علي الان ان ترده، زينب لم تكن كمريم ابنة عمران عندما اوكل اليها الله امرا عظيما، هي حمل روح الله، قالت: ياليتني كنت نسيا منسيا، زينب كانت جبل صبر في عظمتها، فقالت: مارأيت الا جميلا.
فأكمل موكب السبي رحلته ووصلت الى الشام بقيادة الأبقع فاستقبلوهم اهل هذه المدينة برمي الأوساخ ظنا منهم انهم خوارج كما طبل ذلك يزيد وأعوانه وظلّل الأمة، فكشفت زينب الامور وكشفت رموز القضية وقلبت الطاولة، فعادت العقول الى رؤوس اصحابها فوصلت الى ما تريد..
انّ السيدة زينب (عليها السلام) مثلّت دور الاعلام لثورة الامام الحسين (عليه السلام) ولولا زينب لما بقي لثورة الحسين باقية ..
كانت زينب الهية وهكذا هم الالهيون دائما يتجرعون المصائب بصبر وعزيمة.
اضافةتعليق
التعليقات