تراخت أجزاء جسد امي، وكأنها خُدرت من الوجع، لم تنطق بحرف، اسبلت جفنيها الذابلة من الدموع، تتسارع نبضات قلبها، يظن من حولها انها تصارع الموت، لكنها في الحقيقة تصارع الحياة، نسائم الهواء تداعب شالها الأبيض، برودة اطرافها وسكينة الاجواء من حولها كمقبرة، الهدوء مخيف هنا، كنت اتمناه ان يكون بعيدا عن هذه الردهة، بينما تمر على أذني أصوات الممرضات وهم يقتربون من جسد امي، يغيرون ثيابها يجهزون الادوات، بينما تغمض امي عينيها وتسلم جسدها، كما يسلم الليل سواده، امي ماذا يفعلون افيقي من نومتكّ، لا تتركيني بيدهم، امي بدأوا يقتربون مني بأدواتهم الحادة، انا من قاتلتِ الجميع من اجله، انسيتي انني كنت زهرة في حياتك، تبتسمين عندما اتحرك، تعانق روحك السعادة كطوق حمامة، تحضنيني وانا قطعة صغيرة والان تتركيني!.
احست امي بوجع غريب، احتضنتني بقوة علمت انهم يفرقون بيننا، صرخت أمي مرعوبة، بينما كنت انا أتقطع قطعا قطعا، فتمسك يدي بقطعة من احشاء امي، لخوفي ان تصل الة حادة لي، من فعلها يا امي؟ إنها تبكي كثيراً لا اظن انها تبكي من الوجع بل لفقدي، لأنها بذلت الكثير من المال لكوني في رحمها، في منتصف ذلك الوجع بقيت اخر قطعة تربطني بأمي هي المشيمة، وبين كل تلك الصراعات، لازلت أسمع تأوه أمي مشدوهاً، بني لا تمت اتوسل بك يا الله، لم أحتمل تعذيبهم يا امي فانا قطعة صغيرة وايديهم كانت جافة تحصد ثمار عمرك بلحظة واحدة.
يا ليتهم علموا ان الزرع لم يثمر بعد ليقطفوه، لا شيء يهدّئ روع امي الآن سوى تلك الجرعة التي تخدر جسدها فيبقى قلبها يعاني الم الفراق بصمت رهيب، أمي إنني أختنق، تقذفني الحياة نحو سلة النفايات، هكذا هي تقتلنا قبل ان ندخل في عالمها؟ ما يؤلمني هو ان تفيق امي ولا تجدني في رحمها، ماذا تفعل بعدما قدمت كل هذا، الفزع والرعب يثار من حولها، لا احد يجرأ ان يخبرها ان قلبي توقف عن النبض، وانهم اجهضوني، دموعهم تنطق عن لسانهم، جعلت يدها على وجعها وغصت في البكاء.
ما أعلمه أن صوت أمي كان ناعيا، يا إلهي ان امي عاجزة امام هذا البلاء، انا غائب ولن اعود لتنسى قليلا، كل شيء يأتي في الوقت المناسب الا الحزن كل الاوقات حاضر مع امي، حتى في الفرح سرعان ما يأتي ويفسد كل شيء، كيف ستعيش امي بعدي، هل تنظر الى الاطفال وتتفقد ملامحي، هل تشتري ما كانت تفكر فيه من العربة والسرير المزخرف والملابس المطرزة بالعبارات (حبيب الماما، صباح الخير يا عمري) ماذا تفعل بصوري وانا في احشائها، كانت تعلق امنياتها في تاريخ ولادتي وتحذف الايام سريعا، تسافر مع احلامها في غيمة ألم الولادة، تحلم كثيرا ان اكون معها، كنت في قلبها امنية وفي صوتها دعاء، تختار لي الاسم والكنى وكيف سأكون اسمر اللون كأبي، اشقر، لا يهم عندها، لأنها تثق انني جميل، كجمالها، تحدثني عن معاناتها وماذا عملت بها سنين العجاف، كانت تنتظرني بكل الطرق، وعندما اكتمل الحلم افاقت، انتهى يا امي حلم العمر ومات جنينك قبل ان يولد، مع الليل المعتم سافرت نحو السماء ومعي دعواتك، وانت ِتتوسلين طفلي انت لم تمت اليس كذلك، انت معي، ستخرج من احشائي، وتمسك يدي، اشعر بنعومة جسدك، واقبل الانامل الصغيرة، فتغفى على نبضات قلبي، واناغي لتنام هادئا مطمئنا.
حدثت ربي عنكِ، حدثته عن كمية العلاج، حدثته عن اشياء ما كنت لأبوح بها لاحد غيره واخبرني سيعوضكِ بجنين اخر، لا تحزني يا امي، كنت بينكم زهرة اينعت بعد جفاف عودها، حلماً اراد ان يكتمل ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، تركت جرحاً نازفا في فؤاد امي، كم حزنت كم بكيت كم أحيت الليالي بدموع تحرق وجنتيها، كم مرت بلحظات خيبة امل، كم سمعت تلك الكلمات (عذرا لا يوجد حمل، عفوا التحليل سلبي) كم شعرت باليأس، وتحبس انفاسها حتى تكاد تمزق جفونها، وترسم على وجهها ابتسامات لا تتعدى فاها، لم تشعروا بحالتها، انا الوحيد من شاركت امي كل هذه اللحظات، لم تتركها الا ان سقطت ورقتي وانتهت رحلتي في عالم الاجنة، فطرقت روحي أبواب الرحيل، وقطع جسدي مسافة من السير، تاركا خلفي امي بجميع احزانها، ولا املك غير الدعاء لها؛ ربي لا تذرها فردا وانت خير الوارثين.
اضافةتعليق
التعليقات