نفضت التراب عن وجهي ها أنا استنشق الهواء، من جديد تحسست جسدي وشعري الأشعث ملابسي البيضاء كانت تلف جسدي بأكمله وكأني عائد من عالم آخر، ياترى أين كنت كل هذا الوقت؟ هل هو عام؟ أم عامين؟ أم مئة! شعور غريب يراودني فحتى لغة الأرقام فُقدت من رأسي!.
حاولت أن أتذكر شيئاً فلم تسعفني ذاكرتي سوى بخربشات من صندوقها المخبأ؛ صور لجسدٍ انهكهه المرض، همهمات لمحبين حولي، دموع، وصراخ، آه نعم لقد تذكرت لقد متُّ منذ....!.
لايهم الوقت ففي بعض الأوقات يفقد الزمن طعمه ولكن لماذا عُدت؟
صحيح أني كنت خائفاً وحزيناً لفراق أهلي وأحبتي ولا أنسى الساعات الرهيبة التي توالت عليَّ مذ فارقت روحي الجسد وعند نزولي القبر أخذت أغير نظرتي عن حياته لقد تأقلمت مع هذه الحياة الجديدة عله الرغم من صعوبتها ووحشتها إلا أن أجمل شيء فيها أنك تشعر بالعدالة لا ظلم اليوم شعور حادٍ وقاسٍ وفي نفس الوقت يبعث في النفس الرضا والأمان في حياتي الأولى كان الظلم مستشرياً يبعث في النفس الانقباض ويشعرك أحياناً بعسر في التنفس مع كمية الهواء المحيطة بك!
قطعت سلسلة أفكاري تلك أصوات البشر التي بدأت تملأ الدنيا وعلى أثرها سمعت صوتاً جاء من السماء يقول:- (يا أهل العالم قد ظهر المهدي).
سرت القشعريرة في جسدي النحيف وتلاصقت عظامي وأصدرت هديراً غريباً عبارة عن شوق وحنين وخوف ممتزجاً بلهفة للقاء المحبوب..
تذكرت الأربعين صباحاً التي مرت في عالم الدنيا حيث كنت أقرأ دعاء العهد في ذلك الفجر الصادق التي كانت دموعي اصدق منه، كنت أناجي خالقي بأن أرى وجهه وإن داهمني الموت، أريد معجزة عودتي، تلك العودة التي أكون فيها مؤتزراً كفني شاهراً سيفي ملبياً دعوة الحق، عاد الهواء يلامس وجنتي وكفني ولكن الآن أصبح له طعماً آخر ونكهة أخرى مميزة..
غادرت مقبرة وادي السلام على عجل لم أدرِ إلى أين أتوجه وكيف أصل للسبيل، استوقفني شخص ينادي باسمي حسن، تعال ياحسن سيدك بانتظارك، التفت إليه متعجباً سيدي ومن هو؟ قال لي: تندبه أربعين صباحاً ولاتعرفه ياللعجب!
أربعين صباحاً قلت في نفسي لابد أنه يقصد سيدي المهدي ياللهول كيف التقيه وأنا على هذه الهيئة ملابسي رثة، وشعري اشعث، ووجهي مغبر.
لاحظ الرجل ارتعاد فرائصي فقال لي:- لاتخف ياحسن فمولاي لا ينظر لشكلك وملبسك إنه ينظر لقلبك فقط فأزح همك وقوِّ قلبك فهو يحتاج من لديه عزيمة قوية وقلب جلد.
لففت كفني جيداً حول جسدي البالي النحيل وذهبت مع ذلك الرجل إلى مكان أجهله تماماً.
أمرني أن أقف إلى جانبه وخط حولنا مايشبه الدائرة وأمرني أن أغمض عيني وأن لا أحدثه بشئ وماهي إلا دقائق وإذا بي أجد نفسي داخل بستان ولا أحد يقف إلى جانبي!
تلفت يميناً وشمالاً لم أرَ سوى كوخ صغير وسط البستان أخذتني قدماي وقبلها قلبي بإتجاه ذلك الكوخ ما إن دخلت الكوخ حتى رأيت نوره البهي وطلعته الرشيدة وغرته الحميدة، أخذت أبكي وارتميت بكل أحزاني وخوفي وماضيِّ عند قدميه المباركتين أخذ يخفف وطأة الحزن عني ويقول لي:- لمَ البكاء ياحسن ها أنذا معك، وكنت معك منذ ولادتك لم أتركك يوماً، وكل أسبوع كانت أعمالك تصلني كاملة كنت حاضراً حين تهفو وتستنجدني، فأرسل لك من يمد لك يد العون ويخلصك ولكن كنت أعمل كل ذلك بهدوء وبصمت تام!.
(لماذا يامولاي لم أركَ ولا مرة واحدة؟) قلت تلك الجملة وخنقتني العبرة، أتذكر يامولاي حين قرأت قصيدة العرندس في صحن جدك الحسين (عليه السلام) وكنت آنذاك محتاجاً لكَ وبقوة لكنك لم تحضر ولم تبالِ بكل الدموع التي ذرفتها وأنا أتلو أبيات تلك القصيدة هل سمعت صوتي يامولاي وأنا أقسم عليك بضلع الزهراء ولم تجب!
بانت على مُحياه الجليل مسحة حزن وخاطبني: كنت أسمع وأرى ياحسن ومددت لك يد العون من حيث لاتشعر ودفعت عنك ما لاتعلم!
الآن ياحسن لدينا ماهو أعظم من مشاكلك يجب أن ننقذ العالم من أيدي هؤلاء الطغاة فهلمَ معي كي نلتقي ببقية إخوانك كي نكمل السلسلة وننطلق فلدينا عملا كثيرا..
أعطاني مولاي المهدي بعض الثياب وأمرني بنزع الكفن وارتدائها، شممت تلك الثياب كانت رائحتها تزيل كل عفن الذنوب وتطهر القلب من أدرانه لبستها وأنا أشعر أني في قمة السعادة فهذا ما أنتظره منذ زمن بعيد، لا أذكر فعلاً كم لبثت في قبري وقبل أن أُقبر كم عشت؟
لا يهم كم نعيش مادمنا قد حققنا ما نريد فالعام والمئة سيان لدى من رأى ذلك المُحيا.
شربت اللبن وأكلت التمر مع مولاي وكانت ليلتي تلك لا تُنسى، حدثته عن ألم الزمان وكيف عاث بنا الظالمون وكيف كنا لا نميز الغث من السمين واختلط علينا الأمر وكان يشاركني الحديث ويستذكر أسماء كنت قد نسيتها ويوضح لي ما التبس عندها فقط ادركت كم كنا بعيدين عنه وكم كان وحيداً؟ أو بالأحرى كم نحن وحيدون!
تنفس الصباح عن نور بهيج في ذلك البستان، لم أكن حينها وحيداً مع سيدي فعند غفوتي أكمل عدة أمور وجمع العديد وتناقش مع القادة، رحبوا بي فور استيقاظي ودعوني للإنضمام بركبهم ففعلت وانطلقت أجوب معهم ذلك البستان الذي لمَ أَرَ مثله في حياتي، كان الهواء فيه عليلاً لدرجة أنه ينسيك ماضيك ولاتعد تفكر بقريب ولا حبيب، الطيور كانت مصطفة وتغرد مبتهجة بمقدمه المبارك، والحيوانات تآلفت بشكل غريب فالذئب يبدو وديعاً وإلى جنبه شاة صغيرة! السنابل ترقص فرحاً وتصدر صوتاً موسيقياً جميلاً لاتمل الأذن من سماعه، كل الدنيا البائسة تغيرت وأصبحت مكاناً جميلاً يستحق أن نعيش فيه.
حسن ياحسن انهض فهذا الصبح قد أتى!
حدقت وإذا به وجه أمي، أردت البكاء ولكن قالت: ماذا بك ياولدي قم واقرأ دعاء العهد كي تكمل الأربعين صباحاً وحينها ستصبح من أنصاره إن شاء الله.
أدركت أنه يلزمني الكثير من الوقت أو بالأحرى الكثير من النقاء كنقاء ذلك الكفن الأبيض كي ألتحق بركبه.
اضافةتعليق
التعليقات