بلسان ظالم لا يعرف الدين إليه سبيلا موجهاً كلامه إلى معالي الأخلاق عقيلة بني هاشم قائلاً: (كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك)؟.
وبلغة العزيز المقتدر الواثق من نفسه وإيمانه وصدق قضيته وقفت أمام الطغاة، لم تتردد في الافصاح عن ثورة أخيها الحسين عليه السلام وأهدافها ردت قائلة: (مارأيت إلا جميلا.. هؤلاء قوم كتب عليهم القتل والجهاد والفداء فوصلوا إلى أعلى الدرجات فبرزوا إلى مضاجعهم.. وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر يومئذ لمن النصر والغلبة ثكلتك امك يا ابن مرجانة).
مارأيت إلا جميلا
ماذا يعني الجميل؟، لقد وصفه القرآن الكريم، وفي اللغة العربية معنى الجميل أي الحسن الناضج المكتمل، واكتمال هذا المعنى سوف نجده يتكرر في استعمالات القرآن الكريم من ذلك ماورد في كلام نبي الله يعقوب عندما جاء أبنائه بعد أن رموا نبي الله يوسف في الجب {وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ماتصفون}.
وصف هنا الصبر بالجميل، الصبر أساسا هو في مقابل الجزع، والجزع مذموم إلا ما استثني.
بمعنى أن الانسان يفقد السيطرة على عواطفه أو على لسانه أو على حركاته، يصاب مثلا انسان بمصيبة فلا يسيطر على نفسه فيبكي بكاء الثكلى وكأنما الدنيا انتهت عند هذا الحد، وأحيانا لا يسيطر على كلامه يشتم ويفحش في القول ويتعدى الحدود وبالتالي تصدر منه أفعال تعد من مظاهر الجزع، وبجمعها أن الانسان لا يسيطر على نفسه أمام المصيبة والجزع مكروه ومذموم.
في مقابل ذلك صفة العبد الصابر عندما تحل به الكارثة لا يختل في عواطفه ولا تسيطر على ألفاظه ولا تخل بسلوكه، لكن يتكلم بما يعلن عن صبره فيه في أن يقول {إنا لله وإنا إليه راجعون} أو: (صبرا على قضائك يارب)، هذا وإن تكلم إلا أنه ضمن دائرة الصبر فضلا عن أن يظهر على حركاته وسلوكه أمر غير مناسب وإنما تراه متصبرا ثابتا بحيث لو مر على جماعة أو دخل عليه جماعة لم يشكوا أنه صاحب مصيبة، ترى وضعه وضعا عاديا هذا هو (الصبر الجميل) هو من غير تشكِ لأحد من الناس لأن في الحالة العادية الانسان يفيض إناءه بما فيه، وحينما تكون المصيبة أكبر من استيعابه يحتاج إلى شخص يفضفض له.
الصبر الجميل هو ما لا يرافقه شكوى للناس، إنما يشكو إلى ربه سبحانه وتعالى فلهذا نبي الله يعقوب مع أنه كان لديه الصبر الجميل إلا أنه مع ذلك التجأ إلى الله {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون}.
بالتالي الشكوى لله عز وجل وبث الحزن إليه والاستعانة به من الأمور المحمودة، قد تحقق أحد درجات العبودية المطلوبة من الانسان، وقسم من المناجات والأدعية تذكر ذلك، (إلهي كسري لا يجبره غيرك).
والجزع مكروه إلا ما يرتبط بالامام الحسين (عليه السلام) فإنه مستثنى فلو أظهر الانسان الجزع على الامام الحسين (عليه السلام) لم يكن ذلك من الجزع المكروه بل تشمله الرحمة، مثل ماذكر في دعاء الندبة (فليصرخ الصارخون وليضج الضاجون وليعج العاجون).
وزينب عليها السلام استطاعت أن تصل إلى واقع الصبر الجميل في أقصى درجاته فقلبت الواقع الفكري بكلماتها على خصومها وافشلت بذاك المنطق كل الاعلام المعادي ومن مثلها امرأة كادت تقترب من العصمة الكبرى بصبرها وعبادتها ورباطة جأشها، فامرأة قُتل أخوها أمامها الذي لم تحمل الأرض مثله سبط النبوة وسليل الامامة وخامس أهل الكساء ثم ادركت انطفاء قمر العشيرة والكفيل أمام عينيها ويتبعه من تبقى من أهل دارها واحداً تلو الآخر ولا يبقى عندها سوى عليل تتكفل برعايته وثمانين طفلاً وطفلة يتيمة، وجمعاً من النساء الثواكل المفجوعات وسط جيش ليس له دين ولا عرف رُفعت الرحمة والعطف من قلوبهم تماماً وكأنهم حجر لا بل إن الحجارة لانت لتلك المصيبة.
فأي قوم هم، قاموا بذبح حتى الرضيع دون أن يرف لهم جفن وهو على صدر أبيه ولم يتشفوا بذلك بل رضوا الصدور الزواكي وهم على الرمضاء مضرجين ورغم كل ماجرى كانت في غاية الصمود ولم تقصر في كل واجباتها التي انيطت بها في رعاية العليل ومتابعة الأطفال حتى أنها لم تترك صلاة الليل في الليلة التي قتل فيها أخوها وأهلها وقامت بأدائها من جلوسٍ.
وشخصية السيدة زينب زاخرة بالمواهب العالية، وسيرتها طافحة بالمكارم الرفيعة، جمعت أدوار ومواقف يعجز المداد على وصفها، لم تكن وليدة اللحظة التي انطلقت بها القافلة بل إن الإعداد لتلك المصاحبة كان مخططاً لها ويتضح ذلك في اشتراط الامام أمير المؤمنين عليه السلام على عبد اللّه بن جعفر عندما تقدم لخطبتها بالسماح لها بالخروج مع أخيها الحسين لنلمس من ذلك الموقف بل نتيقن بأن هنالك اعداد وتهيأة مسبقة للسيدة زينب.
ومن خلال تلك المواقف والأحداث التي تعرضت لها تجلت لنا كفاءات السيدة زينب وعظمة شخصيتها، وتبدي لنا من نورها المضيء وأفقها الرحيب بقدر ما كانت أبصارنا تستوعب الرؤية والنظر.
اضافةتعليق
التعليقات