في نهاية اليوم ترخي جسدها النحيف على اريكة صنعت من القصب، ترمي عليها ثقل يومها، صامتة وفي العين الف حكاية، اوردتها البارزة تحكي عن اعمالها، وانحناء قامتها يروي تفاصيل يومها المتعب، فكل يوم وهي على ذات الحال، تجلس على الأريكة تستريح من عبء الاعمال، فيومها طويل، وحتى وهي نائمة تفكر فيما تعمله لغدا حاملة هموم يوم لم تعشه بعد، ماذا عن الاولاد، ماذا عن الطعام، تشغل بالها بأشياء اعتادت عليها فقد مضت سنوات طويلة في عملها، وحتى هذه لحظة لم تكف عن التفكير بها.
بينما هي تحاكي نفسها وترتب ليوم غد جدول اعمالها، انتبهت انها كتبت كل ما تحتاجه العائلة، الا انها نسيت ما هو اهم من هذه التي خطتها اناملها، رمت الاوراق، واجهشت بالبكاء، ضائعة في امواج هذه الدنيا تاركة مركب النجاة، كانت في غفلة احرقت ايام عمرها بعود الدنيا وعرفت انها صرفت الكثير من عمرها لمرضاة اولادها، وفي المقابل لم تسمع منهم كلمة شكرا، تنعى مسيرة عمر قضتها وانها لم تعطِ من وقتها لأداء صلاة مستحبة او زيارة، عادت الى القلم وبقوة وفي عينها دموع متحجرة حذفت ما كتبت..
وفكرت ان تجعل غدا يوما مميزا في حياتها فبعد هذه السنوات المهترئة حان الوقت لكي تعود الى شاطى النجاة وتنقذ مابقى لها من الايام..
جاء وقت السحور وجلس الاولاد على مائدة بسيطة لا تخلو من التمر وقارورة ماء، دخلت الام حجرتها هناك شيء ايقظها من سبات غفلتها، ارتدت ثوب الطهارة الأبيض وتوجهت نحو رب كريم تردد تراتيل السحور فكل ما يرتل في هذا الوقت مشهود، بين الندم على الماضي ولهفة الاعتذار كانت تناجي ربها، لحظة اطمئن قلبها الحائر شعرت ان هناك من سقى روحها بفيض، بدأت تقرأ دعاء ابي حمزة الثمالي وتقف عند كل كلمة، وتبصر على مفاهيم هذا الدعاء حتى وصلت الى إِلهِي إِنْ عَفَوْتَ فَمَنْ أَوْلى مِنْكَ بِالعَفْوِ؟ وَإِنْ عَذَّبْتَ فَمَنْ أَعْدَلُ مِنْكَ فِي الحُكْمِ؟
إرْحَمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا غُرْبَتِي، وَعِنْدَ المَوْتِ كُرْبَتِي، وَفِي القَبْرِ وَحْدَتِي، وَفِي اللَّحْدِ وَحْشَتِي، وَإِذا نُشِرْتُ لِلْحِسابِ بَيْنَ يَدَيْكَ ذُلَّ مَوْقِفِي، وَاغْفِرْ لِي ماخَفِيَ عَلى الادَمِيِّينَ مِنْ عَمَلِي، وَأَدِمْ لِي ما بِهِ سَتَرْتَنِي، وَارْحَمْنِي صَرِيعاً عَلى الفِراشِ تُقَلِّبُنِي أَيْدِي أَحِبَّتِي، وَتَفضَّلْ عَلَيَّ مَمْدُوداً عَلى المُغْتَسَلِ يُقَلِّبُنِي صالِحُ جِيرَتِي، وَتَحَنَّنْ عَلَيَّ مَحْمُولاً قَدْ تَناوَلَ الأقْرِباءُ أَطْرافَ جَنازَتِي، وَجُدْ عَلَيَّ مَنْقُولاً قَدْ نَزَلْتُ بِكَ وَحِيداً فِي حُفْرَتِي، وَارْحَمْ فِي ذلِكَ البَيْتِ الجَدِيدِ غُرْبَتِي حَتَّىْ لا أَسْتَأْنِسَ بِغَيْرِكَ..
تذكرت القبر.. آه وضيق اللحد، وغربة المكان، واخذت تصور في مخيلتها الاحبة وهم يعرفون جنازتها متجهين نحو القبر، ترتجف خائفة من الظلمة والضيق والغربة في مكان واحد، من لها ومن يخفف عنها، وحيدة ذليلة، بعدما جردتها المغتسلة من الثياب وغطت جسدها بقطعة قماش رخيصة الثمن، تقلبها الايادي، ومسرعين نحو البيت الجديد..
قد تكون اليقظة متأخرة لكنها افضل بكثير من الجهل والاستمرار فيه، اكملت الدعاء بصوت حزين بعدما قارب الليل على الرحيل ولم يبقَ على بزوغ الفجر غير نصف ساعة، عاهدت نفسها بعهود تنفعها يوم لاينفع مال ولا بنون، سجدت شكر لله لانه ايقظها من غفلتها، شكرا لله، سمع الاولاد نحيب الأم وهي ساجدة، حزنوا عليها واتفقوا بعد هذا اليوم ان يجعلوها تعيش حياتها وتلتفت نحو عبادتها من دون ان يطلبوا شيء، كانت مناجاتها منبه لإيقاظ نفسها وعائلتها من دوامة الحياة..
اضافةتعليق
التعليقات