إن التعليم القائم على التواصل مع الآخرين والنقل المقصود للمعلومات والقيم والذكريات عملية ضرورية لتحقيق إنسانيتنا المتكاملة ,فليس باستطاعة الجينات الوراثية تهيئتنا للوصول إلى الشخصية الإنسانية ولا بد من التربية والتعليم والتعايش الاجتماعي للوصول إلى ذلك,وعليه فان هذه العملية التربوية اللاوراثية ــ أي التعليم ــ ضرورية بشكل مطلق للجنس البشري .
يقول بعض علماء السلوك الإنساني (إننا مبرمجون وراثيا بهدف اكتساب المهارات التي يدربنا عليها الآخرون فقط) وهذا يؤدي إلى الاندماج الجوهري بين الموروثات البيولوجية والموروثات الثقافية, إن أول ما نكتسبه ونتلقاه من التربية باعتبارنا كائنات مفكرة هو إننا لسنا كائنات فردية وان شخصيتنا تتكون نتيجة تبادل المعاني مع الأقرباء, والأمر الآخر هو أننا لسنا الأقدم في جنسنا البشري وقد سبقنا لهذه الدنيا من وضعوا آلاف البصمات الإنسانية والتقاليد والطقوس المختلفة التي سنشارك فيها, نعلمها ونتعلم منها , وان المجتمع والزمن هما الرافدان الأساسيان اللذان يرفدان الإنسان بالدروس الحياتية المختلفة ويفتحان له طريقا للحياة الذاتية, فكما إن التعليم مرتبط بالمجتمع بالتواصل مع الآخرين, فهو مرتبط أيضا مع الزمن إذ يمنح المربين التأهيل الضروري لممارسة التعليم وان الأساس لتربية الآخرين هو امتلاك الخبرة بالمعرفة التي يراد نقلها, والخبرة هي ماض من الاكتشافات التي نستطيع نقلها لمن لم يشارك في صنع هذا الماضي ولو كان اكبر منا بيولوجيا وعليه فانه من الممكن لأي إنسان أن يعلم شيئا للآخرين, فإننا جميعا معلمون في لحظة ما بغض النظر عمن نكون, فوظيفة التعليم متجذرة بعمق في الجنس البشري, فالأطفال مثلا أفضل معلمين للأطفال الآخرين في تعليم بعض الأمور كالألعاب مثلا, ويدرب الشبان آبائهم على استخدام الأجهزة الحديثة, ويعلم المسنون الصغار بعض الحرف والأعمال اليدوية القديمة ويتعلمون في الوقت نفسه من أحفادهم عادات ومهارات نادرة تساعدهم في حياتهم, فجميعنا يمتلك الفرصة لتعليم أحد ما شيئا في مجال معين ولو لمرة واحدة على الأقل في حياتنا, ولكن حتمية قدرة الإنسان على تعليم شيئا ما لا يعني القدرة على تعليم الأشياء كلها, فالمجتمع بقدر ما يتطور تصبح المعرفة أكثر تعقيدا ويصعب بالتالي ممارسة التعليم بشكل فردي في جميع المجالات, كما إن تزايد عدد التخصصات المهنية استدعى تكوين مؤسسات تعليمية متخصصة إلاّ أنها لا تستطيع احتكار المهمة التربوية ولا بد لها من أن تتعايش مع أشكال أخرى للتعليم الاجتماعي أقل تنظيما وأكثر انتشارا, فالتعليم متوافر في كل زمان ومكان ويقوم به الجميع سواء بشكل عفوي أو مقصود.
عند الإغريق في الفترات المتأخرة من العصر الهلنيستي تميزت وظائف التربية بالثنائية واستمر ذلك إلى عصرنا الحالي حيث تم الفصل بين التربية بمعناها الذاتي وبين التعليم,فيقوم المربي بوظيفته داخل المنزل حيث يعيش مع الأطفال اللذين يربيهم على القيم المدنية ويعمل على تهذيب طبائعهم وتكوين شخصياتهم فحظيت مهمته بالأولوية, أما المعلم فيقوم بمهمته خارج المنزل فيعلم الأولاد المعارف العلمية والعملية كالقراءة والكتابة والحساب, المعلم فكانت وظيفته في المرتبة الثانية.
وعند الرومان كان هدف التربية بناء الروح وتنمية القيم الوطنية والأخلاقية ويعد بذلك أسمى من التعليم الذي يهدف إلى تزويد المتعلمين بالمهارات التقنية والنظريات العلمية,ولم يصل التعليم التقني إلى المرتبة التي نالتها التربية المدنية الأخلاقية حتى نهاية القرن الثامن عشر, حيث بدأ الإعتراف بضرورة المعرفة التي يقدمها التعليم وما يحققه من مساواة وتسامح بين الجميع وأصبح التعليم عن طريق النقد قابلا للتطور ثم أصبحت المعرفة التقنية أكثر تخصصا وعملية وصارت تقوّم على أنها أفضل من التربية الأخلاقية والمدنية التي كانت مثال جدل قائم .
ينصح بعض المفكرين بضرورة اتصاف المعارف التي يقدمها التعليم الرسمي بالثبات والعلمية وأن
يكون لها تطبيقاتها العلمية المباشرة وان تقوم الأسرة والمؤسسات الأخرى بدور تقديم المعارف الاجتماعية مثار الجدل.
إن التميز بين التربية والتعليم لم يعد واردا في أيامنا الحالية لان المعرفة المهنية لا تكفي لتكوين ذاتية المواطن وشخصيته المتكاملة إذا تجاهلت التدريبات التقنية تطوير السمات الأخلاقية أو الاستعداد للاستقلالية مما يؤدي إلى تكوين إنسان آلي مأجور,لذا فان التميز بين التربية والتعليم أمر غير مرغوب فيه لأننا لا يمكن أن نقوم بعملية التربية دون القيام بالتعليم والعكس صحيح .
اضافةتعليق
التعليقات