قبل أشهر، أخبرتني صديقتي التي تعيشُ في بلدٍ آخر انتقلت للعيش فيه منذ فترة قصيرة، أنها تفتقدُ وقت الظهيرة في الوطن، تفتقدُ كل طقوس المنازل العراقية في هذا الوقت، بعد انتهاء الغداء، حيث يعم السكون أرجاء المنازل، يهدرُ صوتُ التلفاز في الأرجاء دون أن يركز فيه أحد، لكنه يضفي شعوراً آمناً.
النسيم العليل القادم من النافذة، أصوات كؤوس الشاي وهي تستعد لتُملأ بهذا المشروب السحريّ المائل للاحمرار، انشغالُ كل فرد من أفراد المنزل بما يعنيه، الأصوات الخارجية، أطفالٌ يلعبون، أصواتُ أدوات بناء قادمة من البعيد، أبواق سيارات تصدح هنا وهناك، زقزقةٌ خافتة لعصافيرٍ متعبة من سعيّ الصباح، صوتُ الأواني في المطبخ ورجلٌ عابر يُجري اتصالاً قرب باب المنزل... لم أظن يوماً أن المرء حين يكونُ مغترباً قد يشتاقُ لهذه الأصوات التي اعتدنا كل يوم على سماعها، كيف يُفتقد ما اعتادت آذاننا سماعه!.
نحنُ نألفُ كل شيء لدرجة أننا لا نعاودُ استشعاره، يُصبحُ جزءاً من برمجتنا اليومية، كما يُبرمجُ عقلك على معرفة مكان فرشاة الأسنان والطريقة التي تمسكها بها وآلية تمريرها على أسنانك، لن تعرف نعمة هذه الحركة التلقائية إلا حين تحاول تنظيف أسنانك بيدك اليسرى مثلاً، أو أن تتخيل أنك بلا يدين كلياً!
منذُ ذلك اليوم الذي أخبرتني فيه صديقتي بما تفتقده في الوطن، وأنا أدرّب نفسي على استشعارُ نعمته. صحيحٌ أننا لا نعيشُ حياةً مثالية مرفهة في بلدٍ متطور، ويعاني كل مفصل من مفاصل البلد شتى أنواع الأمراض الإدارية والمفاسد، إلا إن شعور الوطن لا يمكن أن يُعاش في أي بقعة أخرى على وجه المعمورة. أدرّب نفسي على الامتنان لنعمة كأس الشاي العراقيّ المخدّر، والظهيرة العراقية الدافئة قرب المدفأة في أيام الشتاء، والنشاط الصيفيّ في الأيام القائظة حيثُ النهار الطويل المليء بالإنجازات.
تتمكنُ البرمجة اليوم من السيطرة على كل تفاصيل يومنا، فنحنُ نأكل وننام ونصلي ونخرج ونعمل بشكلٍ مبرمج لا شعور فيه، لا نتحسس النكهات التي تحملها وجباتنا اليومية، لا نفرّقُ بين تجانسُ البهارات في كبسة الدجاج أو نكهة الفانيلا في الكيك أو لذّة حبات الهيل في الشاي. هنالك استهلاكية طاغية تحتّم علينا أن نستقبل المدخلات فقط دون تدبّر أو تمحيص، أن نأكل لننتهي من الحاجة للطعام، أن ننام لنتخلص من التعب فحسب، بينما يحملُ كل طقس من طقوس الحياة نِعم عديدة لا حصر لها يمكن أن نقضي وقتاً طويلاً نحاولُ استشعارها وهذا بدوره سيضفي لذة بالغة على هذه الطقوس.
في اللحظة الراهنة التي أنهيت فيها قراءة المقال، يمكنك أن تغلق عينيك وتركز في كل صوت يدخل لمجرى السمع عندك، وكل رائحة تداعبُ أنفك، وكل نسمة هواء تلامسُ بشرتك وأن تكون في منتهى الامتنان لوجودك البشريّ الآن على هذه الأرض... ستركزُ لاحقاً أكثر في روائح الأطعمة المنتشرة في الأزقة وقت عودتك من العمل أو الدراسة، ستدركُ لذة وضع قدمك على الأرض بعد وقتٍ طويل ارتديت فيه الحذاء، ونعمة وجود أشخاصٍ تحدّثهم عن أحداث يومك، وتكون معهم أنت كما أنت بكلِ عفويةٍ وحُب.
اضافةتعليق
التعليقات