"إنَّ أعظم الجرائم في العالم لا يرتكبها أشخاص يخرقون القواعد بل يرتكبها أشخاص يتبعون القواعد. إن الناس الذين ينفذون الأوامر هم من يُسقطون القنابل ويرتكبون المجازر".
- بانكسي
أثناء عملية البحث في أنواع الفنون، جذبني عدّة فنانين ولوحات عالمية مذهلة، لكنني توقفت عند نوع من الفنون ذاك الذي رغم انتشاره بوفرة، إلا إننا نادراً ما نقرأ عنه، فنٌ مجانيّ يراهُ الجميع دون أن يتكبدوا عناء دخول متحف أو البحث في محركات البحث، يمكن أن تراه وأنت خارجٌ من بيتك، في طريقك للعمل أو المدرسة، فنٌ يلاحقك لكي يعرض نفسه عليك ويُجبرك على رؤيته، وهو سلاحٌ ذو حديّن، فإما تراه فتنبهر بروعته وما يضيفه للمكان من جمالية، أو يجعلك تنتقده وتراه مُشوّهاً وملوثاً للبصر، إنه فن الرسم على الجدران.
يتم تعريف هذا النوع من الفنون بأنه: فن الكتابة على الجدران أو الجرافيتي (بالإنجليزية: Graffiti) هي تلك الرسومات أو الأحرف المرسومة على الجدران أو الأشياء بطريقة غير مرغوب فيها أو بدون إذن صاحب المكان وغالباً ما يستعمل هذا الفن بالبخاخات، ويُعرّف كذلك بأنه التغيرات العامة لملامح سطح ما عن طريق استخدام بخاخ، دهان، أو قلم تعليم، أو أي مواد أخرى.
ترجع أصول هذا الفن للحضارات القديمة ويُعتقد أنها موجودة منذ قديم الزمان، أيام الحضارة الفرعونية والإغريقية والرومانية. ونشأ فن الجرافيتي الحديث في الستينات من القرن الماضي في نيويورك بالهام من موسيقى (الهيب هوب).
على الرغم من الانتشار الواسع لهذا النوع من الفن وتوجهه لتحقيق أهداف خيرية، إلا أنه، برأي بيسترول، "ما يزال يعاني من سمعة سيئة". أما فكتوريا جويلونيو/مؤسسة "بلوم" المعنية بحماية البحار، فترى أن هذا الفن قد لقي معارضة في سنواته الأولى، إلا أنه في وقتنا الحالي يلقى قبولاً من المجتمع. كما تشبه جويلونيو هذا النوع من الفن بمخلوقات أعماق المحيطات، إذ إنها جميلة وأخاذة رغم عدم تسليط الضوء عليها، لوجود الحيوانات المألوفة الأخرى كالأسود أو الباندا.
لا يحصل فنانو الشوارع على أي أموال مقابل عملهم، وهم يرفضون بيع أعمالهم إلا للتبرع لقضايا إنسانية أو بيئية أو لأي سبب وجيه آخر، لدرجة أن الفنان بانكسي أحد ممتهني هذا الفن ما زال مجهولاً حتى اليوم، تركيزاً منها على إيصال رسالته عبر الفن الذي يحترفه دون التركيز على هويته.
يُعتقد أن اسمه (روبرت بانكسي) من مواليد سنة 1974 وأصله من مدينة بريستول إلا أنه لا يوجد تأكيد على هوية بانكسي الحقيقية وسيرته الذاتية غير معروفة، ظهرت رسوماته المختلفة في العديد من المواقع في بريطانيا خصوصاً في مدينة بريستول ولندن وحول العالم منها في الضفة الغربية على الجدار العازل. تتنوع رسومات بانكسي في الموضوع وتشمل معظمها المواضيع السياسة والثقافية والأخلاقية.
كان عام 2003 أول ظهور لرسوم بانكسي على جدران بريستول ولندن، وقد أججت العديد من الاستفهامات حول شخصه وأفكاره خصوصاً رسمته لصورة الموناليزا وهي تحمل قنبلة.
في تاريخ 21 مايو 2007 حصل بانكسي على جائزة أعظم فنان يعيش في بريطانيا والتي وزعتها قناة (أي تي في) البريطانية وكما كان متوقعاً لم يحضر بانكسي لاستلام جائزته واستمرت شخصيته مجهولة حتى هذه اللحظة.
لم يعر بانكسي اهتماماً لمجهوليته أو لانعدام الأضواء المُسلّطة عليه، ولعلّه مثل كثير من المبدعين الذين اختبئوا خلف أعمالهم، مفضلين أن يتحدّث فنهم بالنيابة عنهم، حيث إنه وعلى مر التاريخ عاش العديد من الأدباء والفنانين بمجهولية تامة بل وزيّف بعضهم اسمه وجنسه واشتهر باسم آخر، وهو دليلٌ على رغبة الأديب أو الفنان بنشر رسالته من خلال الكتابة أو الرسم أو غيرها من أنواع الإبداع مما جعل التركيز يكون على الرسالة لا الرسول.
لم تتوقف التخمينات والشكوك حول من هو بانكسي الحقيقي! تُدرج قوائم طويلة لا نهائية لشخصيات وأسماء يُرجح أن تكون هي بانكسي، وهناك من يؤكد ويُصر على آراء عبثية واهية عن اسم هذا الشخص أو هويته، مما يدعو إلى زيادة التساؤل والفضول حول هذا المتخفي الغريب. ومما لا يخفى على أحد أن أحد أساليب الشهرة هي المجهولية، حيث يميل الناس إلى ملاحقة علامات الاستفهام والتعجّب يدفعهم الفضول لكشف المستور وإنارة الغوامض من باب أن كل ممنوع مرغوب. ولم يُعرف حتى اليوم من هو هذا الفنان المجهول الذي ينتصر للمظلومين والمستضعفين في كل مكان من لوس أنجلس حتى غزة، حيث يزور مناطق متفرقة من العالم دون أن يُلاحظ أحد وجوده ويرحل دون أن يكشف عن هويته. وقد زار بانكسي قطاع غزة عام 2015 ورسم على جدران البيوت التي طالها القصف الإسرائيلي لوحات تعبر عن الفاجعة..
قام بانكسي بتغطية "جدار الفصل العنصري" في الضفة الغربية بلوحات جدارية تعبر عن معارضته وقد وصفه بإنه "أكبر سجن مفتوح في العالم". رسومات متفرقة لصور فتيات صغيرات يمسكن بالونات في محاولة للهروب، ولمحات من السماء الزرقاء والمناظر الطبيعية الخلابة التي تُرى من خلال الثقوب والشقوق هي صرخة لليقظة ضد بنائه ووجوده.
لا تُعد أعمال الجرافيتي الفنية التي رسمها بانكسي بأي حال من الأحوال العمل الأول أو الوحيد من أعمال الجرافيتي في فلسطين. في حين أن الكتابة على الجدران بشكل عام مثيرة للجدل ويتم تنظيمها بشدة في أماكن أخرى من العالم، فهي على العكس من ذلك مدرجة في النسيج السياسي والاجتماعي للمجتمع الفلسطيني. لا يحتاج فناني الجرافيتي في فلسطين بشكل عام، وغزة بشكل خاص، إلى القلق بشأن دفع غرامة قدرها 93.19 يورو أو بشأن أي تداعيات قانونية لبيع الطلاء، وبدلاً من ذلك ، يتم تشجيعهم ودعمهم من قبل السلطات المحلية والمجتمع المدني.
يُعبّر كل إنسان عن آراءه المختلفة، ويحاول أن يُوصل رسالةً ما أثناء وجوده البشريّ على هذه الأرض، هدفاً لتوعية الآخرين تارة، وبحثاً عن الخلود تارةً أخرى.
لا يمكن الإجماع أو الاتفاق بشكل كُلي على هذا النوع من الفنون، كما لا يمكن الاعتراض عليه تماماً. إنه وسيلة تمرّد لأشخاصٍ لم يستطيعوا التسرب لوسائل التواصل الاجتماعي ولم يفضّلوا خنق إبداعهم فارتأوا نشره مباشرةً أمام أعين الجميع، بشكلٍ مباشر وصريح، حيث لا تتوفر ميزة الغاء متابعة الفنان أو حظره. هو فنٌ يُحدد صاحبه إن كان تخريبياً أو إصلاحياً حسب نوع الرسالة وطرق التعبير عنها.
اضافةتعليق
التعليقات