مع امتداد أيام الحجر المنزلي، واتساع فجوة الفراق مع الأحبّة والأصحاب، ورتابة ايقاع الوقت الذي يمر ثقيلا متثائبا، تزداد الحاجة إلى صاحب او خليل، تشكل الخلوة به اكسيرا سحريا للنجاة من الملل والضجر.. والذي يضيف إلى حياة الإنسان تحولات هائلة على مختلف الصعد..
فهل فكرت _ أيها القاريء _ بهذا الصاحب والخليل؟ وهل شعرت بالحاجة إليه وإلى معانقته وأنت في خضم بحر مللك وكسلك وخمودك وتأففك اللامتناهي؟
إنه الكتاب.. ذلك المتربع على رفوف مكتباتنا، والقابع في زوايا جدران منازلنا، ينتظر أكفّاً تنزله كي تتصفّحه، وعقولا تنفتح مغاليقها بقراءة عصارة جهد ذوي الألباب من كبار العقلاء والفضلاء، وذوي الإختصاصات في مختلف المجالات، وهم الفئة النادرة التي يصعب الوصول إليها والإستفادة من غزير معلوماتها.
يقول شاعرنا المتنبي في وصف هذا الصاحب، وهو في قوله صائب:
أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنَى سَرجُ سابِحٍ
وخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كتـــــابُ
هذا القول الذي جرى مجرى الحكمة، ذكره المتنبي في زمانه.. يوم كان للأدباء والشعراء صولاتهم المعروفة في النصح والارشاد، ويوم كانت لغتنا العربية الجميلة تعيش عصرها الذهبي، فكانت أقوالهم تطبق الآفاق وتنتشر كانتشار النار في الهشيم، فهي لغة القرآن، صحيح أنها حكمة قيلت في زمانه فهو متنبي عصره بلا منازع، يوم كانت السروج السابحة تدل على الفروسية والشجاعة لكنها اليوم استبدلت بالمركبات والطائرات والصواريخ العابرة للقارات، لكنّ شطر بيته الشعري الآخر استحكمت عروته، وبقي قولا فصلا تتناقله ألسنة العالمين على مدى الأزمان، فالكتاب لم يزل خير جليس تجالسه، وأفضل أنيس تؤانسه، في زمن فوضى وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة التي نعيشها هذه الأيام، والتي سُلبت فيها حريتنا في القراءة وتصفح الكتب، بسبب طغيان القنوات المرئية والمسموعة واستحكام قبضة الانترنت على جميع مفاصل الحياة.
فالقراءة طقس من الطقوس المقدسة لدى طالبيها ومحبيها، وينبغي للقارىء الحصيف أن يتخذ الكتاب خليلا عزيزا وجليسا أثيرا إلى قلبه، يخصص له وقتا لاستضافته، والاستماع إلى حديثه والنظر إلى محتواه وما تضمه دفتّاه من علوم نافعة وأفكار شافعة، بتركيز ودقة عاليتين لكي يصل إلى أقصى درجات الاستفادة.
كيف السبيل الى حب الكتاب؟
سؤال لابد منه ونحن نتناول قضية القراءة كمفصل هام في حياة الشعوب، فالأمة الاسلامية هي أمة (إقرأ) لكنها للأسف الشديد لا تقرأ، لذا أجد من الضروري أن نزرع حب القراءة في نفوس الأطفال وهم لا يزالون صغارا لم يشتدّ عودهم بعد، وأن نتدارك الأخطاء التي وقع فيها جيلنا.
ففي بداية حياة كل طفل مشوار عظيم يتعلم فيه الهجاء وقراءة الحروف، من خلال السلم الدراسي ويستمر بشغف القراءة، لكن هل ستبقى هذه الهواية إلى عمر الشباب أم تنتهي هذه المرحلة؟
هنا تأتي مسؤولية الآباء والأمهات في ترشيد مسيرة الطفل، من خلال حثّه على حب المطالعة وتنمية مداركه ورفده بالمجلات التي تعنى بالطفولة، لتتسع مداركه أكثر فأكثر.
فالطفولة هي مرحلة التفكير الفعلي من أجل نمو الشخصية وتكوينها، والأسئلة دليل فطنة وذكاء، والطفل الذي لا يسأل هو طفل غير طبيعي، أما الطفل السويّ فهو الذي يزجّ أنفه في كل شيء، ويسأل عن كل شيء ويريد تفسيرا لكل شيء، بل ان بعضهم قد يرهق والديه بكثرة اسئلته واستفساراته.
ونحن نعلم أن الأسئلة هي بوابات المعرفة، وعلى الوالدين مشاركة أبناءهم رحلة النمو المعرفي هذه بكل محبة وانفتاح، من خلال الاجابة عن أسئلتهم وتحفيزهم على حب الاستطلاع، بل وتقديم القدوة لهم وذلك بأن يُكثروا من القراءة والمطالعة أمامهم، وتخصيص مكتبة صغيرة باسمهم تضم مجلاتهم وكتبهم.. فذلك أدعى للتأسي والاقتداء بهم، وأقصر الطرق لعشق الكتاب وزرع حب القراءة في نفوسهم الغضّة.
وعودا على بدء هل العزلة تسمح بالعودة إلى الكتاب، واحياء طقس القراءة مرة أخرى؟ أم أننا سنبقى أسارى الكسل والتأفف والضجر حتى انتهاء أزمة كورونا؟
علينا أن ننظر إلى الظروف التي عصفت بنا مؤخرا، على أنها منحة وليست محنة، فالنظر بايجابية للأمور أدعى للسلامة وترتيب الأولويات، فلننظر إذن لهذه الفسحة الاجبارية على أنها منحة من الله عزوجل، لترميم حياتنا من جديد، ولإحداث تغييرات جوهرية في سلوكياتنا وعاداتنا وفي مقدمتها: القراءة.. فالكثير يشكو من ضيق الوقت وقلة الفراغ، ومع هذه الفسحة لا مجال للتبرير أو التقاعس، فمن أراد الجد شمّر عن ساعد الجد.. وليجتهد كلّاً من موقعه.
إذن العزلة الحالية هي منحة لإعادة الحياة "القراءة حياة" ولعل رواية ( البؤساء) والتي كتبها صاحبها فيكتور هوغو وهو في منفاه، خير دليل على العزلة المنتجة والمثمرة، والتي يستغلها الانسان في بلورة افكاره وإثراء تجربته الكتابية.
وليس هذا فحسب فهناك الكثير من الأعمال الأدبية ولدت من رحم معاناة العزلة والأزمات.. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة الارادة والتفكير الممنهج تجاه ما يواجهه الانسان من مواقف متغيرة في حياته.. فالعزلة ليست سيئة بالمطلق، بل يمكن اعتبارها محطة لتقديم أفضل ما لدينا، في الوقت الذي قصرت فيه أيادينا عن العطاء ونحن في فسحة من الحركة والتماس.
والعزلة أخيرا هي الجو المثالي للعودة إلى الكتاب، ذلك الخليل المؤانس، والسفر بين جنائن صفحاته، والاستمتاع بها من دون أية منغصات.
فإذا أردت _ أيها القارىء الكريم _ أن تعيد صياغة أفكارك، وتعزز نموك الروحي والعقلي والمهاراتي، ما عليك إلا أن تعانق صاحبك في عزلتك.
وإذا أردت تحسين حياتك وحياة من حولك ليس أمامك سوى معانقة خليلك في خلوتك.
وإذا ابتغيت سعة الأفق وزيادة وعيك وتوسعة مداركك وتحصيل خبرات الآخرين، ورفع سوية تذوقك لفن اللغة والبيان، ما عليك إلا أن تعانق جليسك القابع في عزلته هو الآخر..
فالكتاب خير جليس.. وليس مهما مَن يصاحب مَن، المهم أن تشكّلا أنتما الاثنان ثنائيا رائعا للصحبة الدائمة.
إلى الكتاب ألف تحية.. وإلى كل قارىء نهم، لا زال مواظبا على القراءة ألف تحيّة وتحيّة.
اضافةتعليق
التعليقات