تركت أهلها وقصرها وخدمها وحشمها ونعيمها الوافر كلّه! لأنها أدركت مدى عتمة الظلام الدّامس التي كانت تحيط بها، فتطير بجناحي الإيمان الى طريق النور. عادت بمخليتها الى الوراء (قبل سنة):
الأجواء مجللة وفخمة، الإحتفال عظيم ومهيب، الصُّلبان الهائلة مرتفعة الى أعالي الأسقف وقد نُشِرَت أسفار الإنجيل لهذه المناسبة، المدعوون هم من الوجهاء عند الملك ومن الدرجة الرفيعة في المجتمع الرّومي .
الملك جالس على عرشه الذهبي الفاخر، متبختراً وخالقاً على ثغره ابتسامة خفيفة مطعمة بالزُهوِّ والابتهاج من هذا الحدث.. فالعريس هو ابن أخيه، وأمّا “العروس” فهي حفيدته، نعم حفيدة القيصر ملك الرّوم، العروس مختلفة، هي ليست كباقي الأميرات اللّاتي يمشين بغطرسة وغرور ويعلوهن زهوٌّ واضح، فهي ملاكٌ طاهر.. قلبها النقيّ الجوهريّ، زُلالٌ نقي خالي من أي كُدورة وأي شائبة، صافي كألماسةٍ فاخرة ونادرة، وعقلها وافر اللّب مشرقٌ كإشراقة شمسٍ قوية في سماءٍ صافيةٍ، وأمّا حياؤها وعفافها فكان يضرب به المثل، نعم فكانت صاحبة نفسية شريفة وشخصية قوية، نفسيتها الممتازة وشخصيتها المثالية تؤهلها لبلوغ قمة القمم.. كانت تعلم في قرارة نفسها أنّ مكانها ليس هنا ولا بين هؤلاء الناس، إذ أنّ كلُّ شيء كان بالشكل الأفضل أو بالأحرى كما كانت تتمنى أية فتاة رومية أن يكون زفافها.
ولكنّ "الأميرة الرّومية" لم تكن مهتمّة بهذا الزفاف كما كان جدّها الملك مهتمّاً بل كانت كارهة لهذا الزواج، فالعريس مختلف عنها، وهي التي كانت في عالم الملكوت، عالم الرَّوح والرّيحان .
وإذا وقعت الواقعة! وسرعان ما انهدم الزفاف، الحاضرون في ذهول مبين من انهيار الصّلبان من أعالي الأسقف وخضوعها للأرض ذليلة حقيرة وانهارت أعمدة العرش واهتزَتْ الأرض من تحت كرسيّه وخرَّ العريس من العرش صريعاً من هول المنظر!، وتغيرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائص الحاضرين! مذهولين ممّا يجري حولهم، كأنّ كلُّ شيء في القصر كان يصرخ معترضاً على هذا الزفاف المنكود، كزئير لبوة غاضبة تصون أبنائها من المفترسين .
تطيّر الملك من هذه الحادثة تطيّراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصّلبان وأحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جَدّه لأُزوِّج منه هذه الصبيَّة فيدفع نحسه عنكم بِسُعوده. فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول، وتفرَّق الناس، وقام الملك قيصر مُغتمّاً حزيناً ممّا جرى فدخل قصره وأُرخِيَتْ الستائر. وهو الذي أراد بذلك الزفاف أن يتنقل الملك لأحد أبناء أخيه أي ليتداولوا الملك فيما بينهم .
لم يتوقع أي من الحضور أن تحدث حادثة عجيبة كهذه غريبة من نوعها والأكثر ذهولاً أنها تكررت مرتين، كأن السّماء ختمت بالشمع الأحمر على بطلان هذا الزفاف .
وهذه الأميرة المقدّسة “أمانة” لأحدٍ سمائي المقام .
في تلك الليلة حَلَمَت بسيّد البشرية محمد (صلى الله عليه وآله) وقد خطبها لإبنه من المسيح، فكانوا قد اجتمعوا في قصر جدّها وأقاموا فيه منبراً يلامس السماء علواً، كان المنبر في نفس موقع عرش الملك، فدخل النبي الأعظم (ص) مع فتيةٍ من بنيه يضيء نوره وجههم كالقمر ليلة البدر، فتقدّم المسيح إليه واعتنقه، وقال له النبي (ص): يا روح الله إنّي جئتك خاطباً من وصيِّك شمعون فتاته مليكة لإبني هذا، وأومأ بيده إلى الإمام الحسن العسكري(عليه السلام).
فنظر المسيح الى وصيّه شمعون وقال له: قد أتاك الشرف، فَصِل رحمك برحم رسول الله (ص)، (فقد كانت هي من ذرية شمعون وصي المسيح) قال وصيه: قد فعلت .
فصعد رسول الله (ص) ذلك المنبر الشاهق وخطب وزوجها من إبنه وشهد المسيح (ع) وشهد بنو محمد (ص) والحواريّون .
ومنذُ أن زارتها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) في منامها وأسلمت على يديها فمن بعدها صارت ترى حبيبها في منامها كلّ ليلة الى أن أخبرها أن توقع نفسها في أسر المسلمين كي يستنقذها من مصير مظلم، وتصل إليه .
الآن هي خرجت من دين آبائها والتحقت بقافلة الحق قافلة آل محمد.. تنكرت بزي الجواري وخرجت من القصر بأمر الإمام العسكري (ع) لها عندما زارها في منامها.. فلم تكن رحلتها من أجل لقاء حبيبين وتأدية الرسالة التي أناطها الله بها فقط، بل إنّ الإمام العسكري (ع) بأمرهِ إيّاها بالرّحيل إستبق الأحداث التي كانت ستجري على عائلتها واستنقذها من النَّكَبة التي كانت ستحلُّ عليها، إذ تمّ الإنقلاب على جدّها وقتله فيما بعد، وانتهى حكم سلالتها.
فامتثلت "الأميرة المقدّسة" لما قاله حبيبها. فلم يكن حبّهما من حبِّ أهل الأرض، وقد عمّدَ هذا الوداد المهمّة التي أُنيطت بهما وهي من أعظم مهامِّ الرَّب ادّخرها في عالم الأنوار .
ها هي تخطو مسرعةً باشتياق كاشتياقِ إبنة ضائعة لأبيها فلا تهتم لمدى صعوبة الطريق لأنها ترى النور بالبصيرة لا بالبصر، وعظمة وسمو هدفها.
يجعلها تخطو بثقةٍ وقوة، ف”هو” غايتها المنشودة وهو وجه الله الذي منه يؤتى إنه سيد عالمها، بل حجة الله على الأرض، فهي أمانته.
هربت من الظلمة التي كانت مغمورة بها والتي تعتم حياتها الى نور الإمامة الذي يملأها نوراً وإشراقاً فطريقها الآن أبيض كنور القمر. الى أن بمعونة الله جلّ جلاله تصل الى ساحل الأمان (سرَّ من رَّأى) والى عشّها الذهبي حيث تحنُّ لها الرّوح.. فتصبح بذلك خليلة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وأمُّ الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي سيخلّص آخر الزّمان من الظلام.. إذ هو “المخلِّصُ الموعو” فيملأها قسطاً وعدلاً.. كما ملئت ظلماً وجورا..
الحکمة من هذه الرواية التاريخية، ليست هذه القصة مجرد قصة تاريخية بل هذه القصة لنا..! هنالك الكثير ممّن يقولون نحبُّ أن نتغير ونريد ذلك بشدة! لكن نرى الموانع الكثيرة أمامنا، فمحيطنا وأجوائنا لا تساعد على ذلك وهي مانعة لتحولنا وتغييرنا.
قال تعالى: “بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ“ (سورة القيامة).
عندما نذكر لهم الأنبياء وأولياء الله (عليهم السلام) كقدوة ومثال، إذ أنهم كانوا في مرتع الجهل والفساد والهرج والفوضى.. فلم يتأثروا بالمحيطين ولا بالأجواء المشوشة حولهم بل صبروا وصمدوا وقاوموا وعبدوا الله ورفعوا رايته كما أمر سبحانه. صحيح فهم مأمورين من عند الله وقد اختارهم وعصمهم من الذنوب، فكيف نقارن أنفسنا بهم؟ أين الثرى من الثريا؟! ولكن لما لا نرى النماذج التي تكون قريبة منّا ما هي إجابتكم؟.
من الظلمات الى النور
هل ولدت السيدة نرجس (الأميرة المقدّسة) من أبوين مسلمين؟ وهل ترعرعت في أجواء إيمانية؟ وهل كان محيطها وأجواءها كما تبتغيه وتتمناه؟
قصة السيدة نرجس هي أسوة لمن تأسّى وقدوة لمن اقتدى إذ هي ليست بمعصومة كما هو حال الأنبياء والأولياء، فهي لا تمتلك العصمة الكبرى من الله تعالى، بل أصبحت لديها العصمة الإكتسابية، فكرّمها الباري ورفع مقامها الى الأعالي، وشرّفها بهذا الشرف العظيم .
إمكانية عصمة الإنسان وما هي العصمة الإكتسابية؟
طبعاً القضية تحتاج الى توفيق الهي وتحتاج الى تهذيب النفس دائماً. كما هو حال السيدة نرجس.. فما رآه الله تعالى فيها من نفسية ممتازة وشخصية مرموقة أهّلها لتكتسب هذه العصمة، أي أنّ العصمة التي وصلت لها واكتسبتها كانت بإرادتها وصمودها وقوتها.
إنّ الإلتزام بالأحكام الشرعية مع مراعاة الإحتياط الشديد ومراعاة جميع الشُّبهات، تولّد لدى البعض درجة عالية من التقوى فتعصم الإنسان من الوقوع في الذنوب. وإنّ الإقبال على الله تعالى ودوام الذّكر له، يولِّد لدى الإنسان حالة من الذّكر بحيث لا يحصل عنده النّسيان. فإنّ للسيدة نرجس(ع) عصمة مكتسبة، التي تحصل عند الإنسان في زمن الإقبال على الله تعالى والوصول الى درجة عالية من التقوى. وهذه العصمة المكتسبة تختلف عن العصمة التي نثبتها للأنبياء والأئمة المعصومين (ع) فإنها ثابتة لهم منذ الولادة والى الممات من جميع الذنوب ومن السهو والنسيان والاخطاء .
وأمّا العصمة المكتسبة فتعني ملازمة الثغر، ثغر الأعمال الصالحة، ثغر الأخلاق الحسنة، وغيرها ممّا أمرنا الباري به، وعدم المفارقة عن طريق العدل والطاعة وعدم السلوك في طريق القبيح والمعصية. أن نعيش سلامة الفطرة وكمال العقل ولم يبلغنا هوانا ولم تكن الدنيا غايتنا حيث نبذل لها عشرات السنين للحصول على شهادة عالية ثم نستمر في كل يوم لنعطي لدنيانا العشرة والأكثر من الساعات ونحن لا نعطي لفهم الشريعة وزكاة النفس ساعة واحدة! فإذا كان هكذا حالنا والعياذ بالله كان أمرنا "فُرُطا".
قال الله تعالى: “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا“ (سورة الكهف).
وقال رسول الله (ص): “مَن قارف ذنباً فارقه عقلٌ لا يَرجِع إليه أبداً! “ (المصدر: المحجّة البيضاء).
ما هي العصمة؟
هي قوة أو ملكة تحفظ صاحبها عن اقتراف الذنب والمعصية أو الوقوع في الخطأ، وهنالك فرق بين مفهوم الذنب ومفهوم الخطأ، فالذنب أو المعصية يعني المخالفة العمدية للمولى. ولكن قد لا يكون العمل معصية بل يكون سهواً و خطأً، والفرد المعصوم هو الذي لا يذنب، وهو الذي لا يخطئ، قال تعالى: “ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ “
كيف تصبح شخصية مرموقة؟
ليس المهم أن يكون الإنسان فقط فرداً من البشر، لأن أفراد البشر كثيرون على هذا الكوكب، فإذا ذهبنا الى الشوارع سنرى سيلاً من البشر. يقول الشاعر:
إني لأفتح عيني حين أفتحها / على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا
فينبغي أن نصنع من أنفسنا هذه الأفراد كما فعلت السيدة نرجس (ع). الإنسان “بيده” أن يصنع من نفسه حسناً جيداً أو يصنع نفسه عادياً وأمّا الذين يصنعون أنفسهم أناس منحطين متأخرين فهم كثيرون جداً. فإذا أردتم أن تكونوا "أناس مرموقين" فعليكم بثلاثة أمور، كما قال آية العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدّس سره الشريف):
١- التقوى
٢- الأخلاق الحسنة
٣- خدمة الناس
أمّا التقوى أن يخاف الإنسان ربه ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً، فهذه فضيلة ما فوقها فضيلة .
فالله سبحانه وتعالى ليست له قرابة مع أحد أبدا، وإنما يزن الناس بالتقوى، قال تعالى: “ ِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ“ (سورة الحجرات).
فيجب عليك بكل ما لديك من قوة أن تكون متقياً، فَتُحمَد.. أحد شعراء البحرين لديه قصيدة جميلة نقرأ منها :
أنفاسُ عمركَ أثمانُ الجنانُ فلا/ تشري بها لهباً في الحشر تشتعلُ
وقال تعالى: “إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ“ (سورة فاطر).
لكن كيف تكون متقياً؟
- ليلاً ونهاراً يلقِّن الإنسان نفسه أنّه إنسان متقي، فالإيحاء الذاتي له تأثير كبير في نفس الإنسان وفي أفعاله .
- الأخلاق الطيبة، دائماً يكون الإنسان أخلاقه طيبة وهذا حقيقة صعب لأن طبيعة الإنسان طبيعة الغرور، لكنه ممكن.
- خدمة الناس، فالإنسان يجب أن يخدم الناس دائماً، بقلمه، بلسانه، بيده، برجله، بكل شيء حسب قدرته، هناك مثل يقول: بأي يدٍ أعطيت بيد الثاني تأخذ .
وعن أيليا أبو ماضي الشاعر اللبناني:
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيتُ
وطريقي ما طريقي أطويلٌ أم قصير
وهل أنا أصعد أم أهبط فيه أم أغور
فهل ستمشون الى شخصية مرموقة، عالمية، خدومة، أن تكونوا أناساً في الآخرة يشار إليكم بالعمل الصالح؟
قال تعالى: “ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ“ (سورة آل عمران، سورة الأنفال).
اضافةتعليق
التعليقات