في لحظة من لحظات يخبئها القدر لا يعرف حينها الا من اهدى تلك الروح في احشاء ام تحمل طفلا لتسعة اشهر وما فوق ذلك بأيام... تراقب فيه تقلباته التي يبدأها بنبضات يخبرها انه بدأ يلمسها فتبدأ مع تلك النبضات احاسيس الامومة بالنمو اكثر فاكثر وتزداد شوقا لساعة ولادته... تعد ايامها مع تقلباتها الليلية المزعجة والمصحوبة بآلام الثقل والتلكؤ فتعتصر احشاءها ألماً وينشرح قلبها شوقا..
تراقب التقويم لتشطب الأيام السابقة وتعد الأيام اللاحقة وكلها امل وبشرى، مستبدلة دعواتها وامانيها بدعاء واماني لطفل يدور بين احشاءها... نعم فالتغيير في فترة الحمل لا يقتصر على نوع الطعام والشراب والنوم والتعامل فالتغيير يشمل كل شيء حتى الدعاء..
انه فلذة الكبد وقطعة من الروح ومن سيغير الحال بأذن الله الى احسن حال.. فالاسم المجرد للأهل سيصبح مسبوقا ب (اب وام )، والأب والام سيصبحان جداً وجدة... امر يستحق الفرح.. ويستحق عناء البدء بالتحضير وشراء الملابس والمفروشات والهدايا.
الأماني معلقة على هذا الكائن الصغير.. فهو من سيزرع البسمة على شفاه هذه العائلة.. هو من سيملأ البيت بضحكاته العفوية.. وهو من سيركض بين هذا الجدار وتلك النافذة... وهو من سيجعل الجد الخمسيني او ما يفوق ذلك يجري ويركض ويلعب معه وهو مبتسما وفخورا.
لكن للقدر نصيب من هذه الخطوات... فظلام الليل يخبئ تحت جناحه اسرارا تستبدل الفرح بالحزن والاماني باليأس... فالصغير المولود هذه الليلة يحتاج لحضن غير حضن امه وسيترك فيه الى الصباح لتتحسن حالته..
يعز على الام فراقه ولكنها تتأمل بذلك خيرا... فهو محتاج لدفئ اكثر من دفئ احضانها هذه الليلة.. تركته مودعة وجهه الملائكي البريء في تلك الحاضنة يجاوره عدد من الأطفال يرافقونه ويسلون وحدته.
تخبرها مشاعر الامومة في داخلها بان خطب ما سيحدث، اوصت من يعمل على تلك الحاضنات بان يعتنوا بصغيرها، اخبرتهم بانه فرحتها الأولى وستتركه الليلة هنا مكرهة، فالتعليمات تقتضي بتركه وحيدا، تركته وعيناها تترقبان عيونه التي ما زالت مغلقة بعد، تحاول ان تخزن في ذاكرتها جميع تفاصيله الى حين عودتها في الصباح الباكر، لم تكن تعلم ان تلك النظرات ستكون الأخيرة
فبعد ساعات قليلة شبت النيران واحرقت صغيرها بالكامل فاستبدلت ملامحه الجميلة بملامح مشوّهة، ولم يبقَ من بياضه الناصع شيئا، واستبدل فرحها بحزن سيبقى داخل اعماقها مدى العمر... فطفلها فارق الحياة بسبب الإهمال وتردي الخدمات في تلك المستشفى التي يذهب اليها كل من يحتاج الى عناية.
من اين تأخذ حق طفل ابصر النور ولم يبصر بعد، فساعاته القليلة التي عاشها لم تسمح له حتى بأن يلمس جسدها او يشم عطرها او يحس بدفئها، ولم تكن تلك الساعات كافية لتقدم له الحنان والأمان بعد كل تلك الأشهر الطويلة التي ترقبت بها مجيئه واستعدت بها لاستقباله، فكل شيء كان مستعاد لقدومه، قلبها مشاعرها جسدها منزلها أهلها.... الا وطنها احرقه في اول قطعة منه ولد فيها، ليحوله من ملاك ابيض يفوح منه اريج الطفولة وعبق الياسمين الى قطعة سوداء تنبعث منها رائحة اللحم المحترق بنار أحرقت اجسادهم وقلوب اهاليهم.
اضافةتعليق
التعليقات