في خضم ما يحدث حولنا، يجدر بالانسان أن يقف وقفة تأمل وتفكر ويتجاوز حجب الأسباب الظاهرة إلى فهم مراد الله وحكمته في ما تجري به المقادير.
إن البشرية في السنوات الأخيرة تقترف ظلماً شنيعاً في حق أفرادها للأسف، فالواقع يقول أن حضارة الانسان الأخيرة اتسمت بالمادية المتوحشة التي تصنع مجدها على جماجم الضعفاء والأبرياء وعلى حساب صحتهم.
ظلم البشرية نفسها لنفسها أهم أسبابها هو السعي الحثيث للإنسان إلى مليء خزائنه واشباع غرائزه وحاجاته، كلٌ يتبع اللامبالاة وعدم الاكتراث، فأصبحت ترى حيتاناً تبتلع الأموال ابتلاعاً لا تشبع ولا يمتلئ لها جوف.
وأينما تتوجه بوجهك تلحظ أن المادة اليوم أصبحت العنصر الأقوى، هذا بعد أن فرضت سيطرتها شيئا فشيئاً ولفت أطراف الدنيا لفاً حتى أحكمت السيطرة عليها تماماً، فأصبحت تترأس في سيطرتها تلك على معايير الأنسان في نظرته لنفسه وللآخر ولهذا غدت الغالبية منا نحن البشر نقيس بناءاً على ما يظهر من مظاهر المادية الخادعة هذه وننجرف مع سيلها حتى نغرق فيها، فنحن نعيش اليوم على ضوء المثل الشعبي الدارج: "عندك درهم تسوة درهم، عندك عشرة تسوة عشرة ماعندك ولا شي ما تسوة شي". والذي يوضح ترأس المادية كمسطرة قياس فقيمة الإنسان اليوم تحسب بمقدار ما يملك من مال وسلطة، ومهابته تقاس بما يملك من قوة لا بما يحمل من أخلاق او ما يتبنى من قيم وفكر وانسانيات.
ونحن مقابل ذلك نقوم "بالدور السلبي" فبأيدينا أصبحنا نساعد في نشر مرض معدي انتشرت عدواه للواحد منا تلو الآخر حتى بات الواقع مليئاً بأولئك الوحوش (وحوش المادة) الذين لا يهمهم سوى جني المال، هنا قريب لا يفكر إلا بكيفية جمع المال فيدخل أبناءه الطب سعياً لذلك معلناً بملئ فاه غايته تلك في هذا وأنهم "حصادة فلوس" حسب تعبيره، طبيب لا تهمه صحة المرضى وسلامتهم بقدر المال الذي سيحصل عليه!.
ومن يريد أن يكتسح السوق ويحصل على أكبر قدر من المادة حتى لو كان ذلك على حساب صحته، وآخر مدير مدرسة والذي من المفترض أنه "انسان تربوي" يرفض استقبال طالب في مدرسته لسبب واحد فقط هو فقره كونه يعمل عاملاً مساءً وفي الصباح طالباً فيرفضه برده "ما تنفعك هالمدرسة دور غيرها" ويلف برأسه ويمشي!.
هذا يسحق ذاك من أجل المال وآخر يتخلى عن مبادئة وقيمه لذات الهدف، الصور عديدة ومتنوعة وبأوجه مختلفة نواجهها ونصادفها كل يوم للأسف!، كنا نسمع "سيط الغنى ولا سيط الفُكُر"!، اليوم اصبح هذا السيط مهماً! بل مهماً جداً! أصبح قوة!.
لماذا كل هذه المادية؟
هل أصبح الفقير _والذي لم يختر فقرهُ يوماً ولو خُيّرَ لما اختاره_يتحمل ذلك كله؟ يتحمل ذلك الأسلوب المحتقر من الآخر أو يجبر أن يسمع الكلمات التي تستخف به وبقيمته وكل تلك النظرات المحتقرة والقليلة فتنحر في قلبه وتنحفر في صدره الآلآف من الكلمات والحسرات والآهات وتُزرع في نفسه الأحقاد..
فلا عجب إذاً إن يظهر منهم شخص يبطش بكل من تطاله يده عند أول فرصة تأتيه دون أي رحمة أو شفقة، إن لم تهتم بذلك الفقير وتوفر له أبسط احتياجاته _والتي هي عندك تحصيل حاصل لابد من توفرها _فعلى الأقل لا تجرحه، لا تحقره، لا تشعره أنك أفضل منه بشئ عامله باحترام وخاطبه بأدب.
اظن أن الكثير منّا لم يعد انسانياً كفاية للأسف، عندما تُقَيَّم حسب المظهر، المنزل، السيارة، الجهاز النقال، الملابس، وكل ما تملك ويتم التعامل معك حسب ذلك ولا ينظر لداخلك ولا يُهتم لانسانيتك أو مشاعرك، لا يهم في المعايير أنك جيد أو سيئ، لا يهم في الحكم عليك سوى ماذا تساوي وكم تحمل! هذا يعني أن الكثير منا لم يعد انسانياً كفاية.
لم يعد العمل الانساني المجاني والذي يهدف لفعل الخير يعني شيئاً للكثيرين على الرغم من عِظم أجرهِ عند الله سبحانه وأنه وحده هو من يتكفل بكيفية رده لصاحبه ويرده له أضعاف مضاعفة، فهذه تجارة معه سبحانه والتجارة معه لا تبور، لكن الأغلب لا يبالي، ولم يبالي!.
فهو لا يفكر بمنطق أن الايام دواليب ولا يدرك مفهوم الحياة الواقعي والذي يصرح أن "دوام الحال من المحال" وأن التغيير هو سنة من سنن الله الثابتة في أرضه.
فبعد كل ما نعيشه اليوم الأجدر بالانسان أن يراجع مساره ويستفيق من غفلته ويسير وفق ما يريده له خالقه ويعود إلى عهده الذي عقده معه في عالم الأزل.
ختاماً عزيزي القارئ، في زمن الماديات وتبدل المعايير وإختلاف المسطرة وميلها، مل بقلبك إلى فطرتك وعد به لمعاييرها وعش بتوازن بين الماديات المغرية وقيمك التي غرست فيك وانسانيتك التي تحملها في داخلك.
اضافةتعليق
التعليقات