أواخر ديسمبر، كان النور قد فارق مصابيح دارنا لأيام، أبي كان يعكف على مذياعه الذي يلتقط الموجات بصعوبة يتتبع أخبار الحرب. كنت أكره ذلك الصوت الذي يشد سمع أبي فيصغي إليه بقلق أضطرب أنا أيضا ينتابني الخوف عليه.
ترى لماذا يذهب أبي إلى الحرب!!
ولماذا تخطفني أختي من فراشي مسرعة وتزعج رقادي.. تهرول بي في الليالي الحالكات.. أفيق مذعورة ماذا يحدث مابهن!!
هي وأمي وجدتي !
يتهامسن عندما يتحدثن عن أبي وأخي وهما في الجبهات أستشعر الخطر القادم من حديثهن ومن هو بوش هذا الذي لا يكفون عن ذكره..
أبي هو الآخر كان يجلس لساعة يفكك سلاحه ويعيد تركيبه ويحشوه بالذخيرة على ضوء الفانوس الخافت .
ليالٍ كثيرة أستيقظ عطشة فأوقظ أمي ولأن المطبخ بابه خارجية لم تكن تخرج دون أن تحمل معها المكوار ..
لا ألتذ بالماء أبدا ولا أرتوي أشرب وتلفتات أمي تبث في الرعب. كانت هي من تحرسنا في غياب أبي .. ذات نهار فكرت في سلاح خاص بي، أتيت بفردة جورب زرقاء ملأتها بالحصى المدببة وتركت منها مقدار مسكة اليد ..
وعندما سألني أبي عنها وهو يلف إحدى خصلات شعري المتموج على سبابته
ــ شنو هذا بابا شتسوين بيه؟
أجبته فورا: أنت لديك سلاح، وأمي لديها مكوار، وأنا أحتاج هذه ظنا مني إن بوش سيأتي راجلا ليشتبك معنا فأباغته بضربة على رأسه.
تبسم ضاحكا وضمني، عاد الكابوس ذاته يراودني أصوات طائرات في الخارج تحلق بمستوى منخفظ صوت المروحيات وهي تشق سكون الليل.
يرتجف سقف دارنا تحتها، كانت أختي حاضرة لتخطفني من هجعتي وأنا أحتضن دميتي الصغيرة راحت تهرول بي إلى الخربة. تَعَثرتُ فأفلت الدمية، سقطت مني في الساقية ووطؤوها بنعالهم ..
آذاني ذلك المشهد شعرت أنها تتألم وتستغيث بي، كانت أختي قابضة على ذراعي بقوة تمنعني من الخروج من الخربة وبيدها الأخرى تغلق فمي كي لا يسمع أحد صراخي بكيت بحرقة لأني تركتها وحيدة وخائفة قرب جذوع القصب في الوحل البارد .
سماء منزلنا تعج بأصوات مختلفة جدتي تنادينا بأسمائنا وتعدنا هل كلنا هنا وأمي تبكي والدي وأخي ترى أين هما الآن. بقيت أرتجف وكأن مخلوقات شرسة تهاجم كوكبنا.. أو كأننا دخلاء على هذه الأرض ..
حتى عندما نصنع ملجئاً أنا وأخوتي كالذي يصفه أخي، تهرع أمي إلينا صارخة هذا نذير شؤم كلما فعلتم هذا تورطنا بحرب.. أمي تبالغ في مخاوفها .
الحروب ليست سوى طائرات، لم نترك البيت لنحتمي بخربة؟ لم يحدث كل هذا ومن هؤلاء. لم تجب أمي على أسئلتي ما الذي يمكن أن تفهمه طفلة لم تتجاوز السادسة، انتهت الحرب وعاد أبي.
الملجأ الذي كنا نمثل ونلعب فيه سكنته كلبة ولدت فيه جرائها وكنت أحيانا ألاعبهن والخوذة التي كنت أعتمرها في الملجأ كانت أمي تملأها بالماء وتضعها للطيور في الحديقة، أما دميتي قد ماتت تلك الليلة دفنتها وغرست قربها غصن زيتون .
اضافةتعليق
التعليقات