يقال عند أجدادنا القدماء عن الضيف "الدار التي لا تعرف الضيف مقبرة لساكنيها" فإن الكرم والضيافة هي من شيم العرب بصورة عامة والعراقيين على وجه الخصوص، إن إكرام الضيف صفة متوارثة في المجتمع العراقي الذي نشأ أفراده على هذه الصفة وعاصروها وتغنوا بها عبر التأريخ وعلى مدى الأجيال، والشواهد المعنية تشهد بها جميع الأجيال السابقة واللاحقة.
تستقبل العوائل العراقية ضيوفها بكل حب وترحاب وفي أي وقت من أوقات الصباح أو المساء ويقدمون لهم كامل الضيافة لمدة ثلاثة أيام أو ستة ايام أو حتى شهر ويقدم للضيف عند زيارته الغالي والنفيس... حتى أنهم يتعاملون مع ضيفهم على أنه "حبيب الله" وهو من ألقاب رسول الله، وذلك من ضمن قاموس واسع من العبارات والأمثال والأشعار التي تعبر عن المجاملة في كل مناسبة وموضع وحالة.
ومن شدة حب العراقيين للضيف وتمسكهم بكرم الضيافة، فإن الزائر أو الضيف لا يحب مفارقتهم ويتمسك بهم ويداوم على زيارتهم كما حدث مع هذا الضيف الثقيل الذي يزور العراقيين منذ القدم ودائم الزيارة لهم ولا يحب فراقهم ربما لأنه أحب ضيافتهم وترحابهم به فهذا الضيف دائم التردد على البيوتات العراقية يدخل لجميع العوائل العراقية ويترك بصمة كبيرة عند خروجه حتى باتت في الآونة الأخيرة زياراته كثيرة ونستطيع تصنيفها بأنها زيارات يومية ولا يمر يوم إلا وحل ضيفا على أحد البيوت العراقية وأخذ معه أجمل مايملك ذلك البيت.
فكما نعرف جميعنا أن الكرم من شيمة العراقيين ولا يستطيعون أن يردوا ضيفهم وعند زيارة الضيف يقدمون له الغالي والنفيس وعلى ما يبدو أن هذا الضيف طمع بالكرم العراقي وبدأ يأخذ أجمل ماتملك البيوت العراقية واغلى ما لديها ولأنهم رضعوا الضيافة والكرم من حليب أمهاتهم فلا يستطيعوا سوى أن يستضيفوا ضيفهم بكل طلاقة وترحاب ورضا.
واستمر طمع ذلك الضيف المبجل الذي أصبح هو سيد الدار وهم الضيوف واستفحل في أرض العراق من شماله إلى جنوبه ووسطه وكثف زياراته إلى أن أصبحت شبه يومية وبينما يتحضر الشعب العراقي لرفع غبار الزيارة الأولى إلا وتفاجأوا بزيارته التالية لعله احب افراط الكرم العراقي وتفريط الترحاب به ولا يستطيع تركهم أو فراقهم فهم في عز الاحتياج والأزمات يرحبون به بابتسامة مشرقة خجولة تحمل خلف ثناياها التعب والأنين والاحتياج.
الموت هو الضيف الذي يطارد أبناء الشعب العراقي ويزورهم يوميا منذ زمن بعيد، لن أتكلم اليوم عن زياراته القديمة وماذا فعلت بالعوائل العراقية وكيف نكبت الأمهات بسببه، سأتكلم عن زياراته التي باتت شبه يومية، زياراته الأخيرة التي لم تلبث أن تركت وراءها في كل بيت نكبة ودمعة وصرخة حتى صار ثلث الشعب العراقي أيتام وأرامل وأمهات ثكلى على أولادهن.
بات البلد وكأنه خاليا من البشر فكثرت المقابر به وتصاعدت الويلات والنوائح وصارت الفواتح أكثر من الأعراس وأصبح اللون الأسود الرداء الرسمي والحزن شعارهم أضحت الأشجار بلا أغصان والحمائم بلا أجنحة والعصافير لها أنياب والأنهار تجري بالدموع والأحجار تصرخ بأفواه كبيرة والقبور تضحك بوجوه المارة كعجوز فقدت أسنانها.
إن هذا بسبب زيارات الموت المتعددة إلى العراق وبأشكال متنوعة تارة بصورة عدو ارهابي يقتل وينهب ويدمر شباب هذا البلد المضياف بطرق وبصور أبشع من أن يتخيلها العقل، وأخرى بشكل قصف عشوائي متنوع وأخطاء عسكرية من جهات مختلفة معادية تحت مسمى انتهاك السيادة التي لا وجود لها في بلد انهكته المحاصصات والاتفاقيات التي تجري تحت الطاولات ليقتل زهور البلاد وأبطاله الغيارى بدون أدنى ذنب فقط لكونهم عراقيين، وطريقة ثالثة يسرق الموت شباب بعمر الزهور خرجوا من بيوتهم للمطالبة بحقوقهم ورجعوا ملفوفين بكفونهم لأنهم قالوا لا للظلم وأرادوا وطنا مستقلا بعيدا عن المحاصصات الحزبية، أرادوا فقط العيش بكرامة والتمتع بخيرات وطنهم وكانت النتيجة أن يقدموا لضيفنا المبجل على اناء من ذهب..
وآخرها كان وباء على شكل شبح يحمل بين ثناياه الموت والمرض جاء زائرا وهو يعلم بأن الشعب العراقي قد هلك وتعب وهرم وليس لديه أدنى استعداد لاستقباله فالوضع الصحي مترهل وفقير والوعي الصحي ليس موجودا في قاموس مفرداته، وبرغم ذلك استقبله الشعب العراقي بابتسامتهم المعهودة وترحابهم المعروف، ولكن الموت مصر أن يأخذ أجمل ضحكاتهم وينتهك أغلى أرواحهم، فالعراق البلد الوحيد الذي يسجل نسبة وفيات 10% من جراء الاصابة بفايروس كورونا من دون كل دول العالم التي شهدت وتشهد الاصابة بهذا الفايروس.
وعيون الشعب مترقبة وكل بيت على أتم الاستعداد لاستقبال الموت لا بل الأتعس من هذا أنهم غير مباليين خطورة هذا الداء فقلوبهم ماتت من شدة الفجائع التي سببها الموت لهم.
بالله عليك أيها الموت المبجل، ما الذي رأيت بالعراق لتعشق شبابه إلى هذه الدرجة، هل أبهرتك حسن ضيافتهم أم غرتك خيراته المنهوبة أو وجدت أجساد شبابه أنهكها التعب والفقر والعوز وأرواحهم مجروحة ومفجوعة ومستعدة كل الاستعداد لاستقبال الموت؟.
مابالك أيها الموت تخيم في الأرض العراقية حتى أصبحت المقابر بكل مكان وجوامعهم مزدحمة بالفواتح، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «الضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهور صدقة». وصندوق البنك الدولي لاستقبال الضيوف قد نفذ عندهم وهم يغلقون أبوابهم الآن أمام كل ضيف ليستقبلوك على طبق من ذهب فتبسم بهم خيرا.
اضافةتعليق
التعليقات