لم يكن ذهاب السيدة زينب (عليها السلام) مع اخيها الحسين مع النساء والعيال دون سابق وعي أو أختبار؛ فزينب(عليها السلام) لم تكن مستدرجة، ولم تجد نفسها متورطة في معركة فرضت عليها، بل اقتحمت ساحة الثورة بملء إرادتها وكامل اختيارها، وهي تعرف جزافاً ان الحسين ذاهب ليواجه الموت، وهنا تتجلى عظمة السيدة زينب(عليها السلام)، فقد كان لها دور كبير في استمرار ثورة الحسين "عليه السلام" ولولا خطبتها الشهيرة في مجلس يزيد لكانت ثورة الحسين أُخمِدت وانتصر الباطل وهذا ماكانت تبتغيه الخلافة الفاسدة في تلك الحقبة التي كانت تحكم الناس باسم الله في الأرض.
ويحدثنا التاريخ أن السيدة زينب (عليها السلام) هي التي قررت وأرادت الخروج مع أخيها الحسين(عليه السلام) في ثورته، مع أنها من الناحية الدينية والإجتماعية في عهدة زوجها عبد الله بن جعفر والذي كان مكفوف البصر، كما كانت ربّة منزلها والقائمة بشؤون أبنائها، وكل ذلك كان يمنع التحاقها بركب أخيها الحسين(عليه السلام)، لكنها قررت تجاوز كل تلك العوائق واستأذنت زوجها في الخروج مع أخيها، فأذن لها بذلك بل وأمر ولَدَيه عون ومحمد بالالتحاق بقافلة الركب والسير الى كربلاء.
وحاول الكثير من الصحابة، وأخيها محمد بن الحنفية من اقناع الحسين عليه السلام عدم أصطحاب النساء والعيال ولكن اجابهم ابا عبد الله عليه السلام: (أتاني رسول الله وقال لي: ياحسين أخرج فإن الله شاء أن يراك قتيلا). وعندما سألوه عن امر النساء والعيال قال:
(وشاء الله أن يراهن سبايا).
وفي صبيحة اليوم العاشر من المحرم بدأ الجيش الأموي هجومه على معسكر الإمام الحسين فتبادر أصحاب الإمام ورجالات أسرته الهاشمية للدفاع عن وجود الإمام وعياله وعن أنفسهم، وسطروا من خلال معركة دفاعهم المقدس ملحمة خالدة من البطولة والفداء لم يعرف التاريخ لها نظيراً، وبعد ظهر اليوم العاشر من المحرم كان جميع الأصحاب والأنصار قد عانقوا الشهادة، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، بينما بقي الإمام الحسين يواجه القوم بمفرده وخلفه نساؤه وعياله قد أقضهم العطش والظمأ، وآلمهم الحزن والمصاب، وأصبحوا ينتظرون مستقبلاً مأساوياً بعد فقد رجالاتهم وحماتهم.
وتصدى الإمام لمواجهة القوم وقتالهم، غير آبه بكثرة جموعهم، ولا نالت المصائب والآلام من عزيمته وشجاعته، حتى أذن الله له بلقائه، فوقع صريعاً شهيداً بوغاء كربلاء، مضمخاً بدمائه الشريفة، شاهداً على انحراف الأمة عن رسالة جده، راسماً لأجيال البشرية طريق الثورة والنضال دفاعاً عن المبدأ. في هذه اللحظة بدا دور ومسؤولية السيدة زينب عليها السلام؛ وكانت تتمحور مسؤوليتها في جانبين:
- الأولى: هي حماية النساء والعيال والأمام السجاد (عليه السلام) الذي نال منه المرض في تلك الفترة.
- الثانية: هي اكمال ثورة ونهضة الأمام الحسين عليه السلام وتعريف القوم بالخطأ الفادح الذي ارتكبوه في قتل سيد شباب اهل الجنة واهل بيته الاطهار وتعريفهم بالسبب الذي ضحى من اجله الحسين بنفسه وبأهل بيته، الا هو الانحراف عن المبادىء والقيم والحكم بما أمر الله، والجور الذي لحق بالناس من جور الحكام الظالمين.
وقد أُعدٌت السيدة زينب عليها السلام؛ لهذا اليوم ولم تنل هول المصيبة من ثباتها وعزيمتها في مواجهة العدو وقد تجلى ذلك من خلال خطبتها الشهيرة في مجلس يزيد. وكان لزاما لحفيدة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تنتهز هذه الفرصة، وتجازف بحياتها في سبيل الله، وتنفض الغبار عن الحق والحقيقة، وتعرف الباطل بكل صراحة ووضوح.
بالرغم من أنها كانت أجل شأناً، وأرفع قدراً من أن تخطب في مجلس ملوث لا يليق بها، لأنها سيدة المخدرات والمحجبات!.
ولكن الضرورة أباحت لها أن توقظ تلك الضمائر التي عاشت في سبات، وتعيد الحياة الى القلوب التي أماتتها الشهوات، وغمرتها أنواع الفجور، والإنحراف عن الفطرة، فباتت وهي لم تسمع كلمة موعظة من واعظ ، ولا نصيحة من نصوح. وما زاد في وجعها حينما جيء برأس الحسين (عليه السلام) ووضع بين يديٌ، يزيد في طست، فجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده، وهو ينشدُ فرحاً:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ..... جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا واستهلوا فرحا ...... ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم ...... وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لست من عتبة ان لم انتقم ...... من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا ...... خبر جاء ولا وحي نزل.
كانت تلك الأبيات موجعة ومستفزة قيلت بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن أهل بيته الأطهار وكان لابد لتلك الأميرة التي توجتها المسؤولية أن تَرد على يزيد حتى انها أبكت كل من في مجلسه واحدثت خطبتها فجوة بين الحاضرين واعلت كلمة الله.
بعدما رأت من فعل يزيد برأس الحسين (عليه السلام)، نادت بصوت حزين يقرح القلوب: «يا حسيناه! يا حبيب رسول الله، يا بن مكة ومنى، يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء، يا بن محمد المصطفى».
نهضت واقفة شامخة كالجبل. والقت خطبتها والتي بدأتها بحمد الله على استشهاد اهل البيت وهي تقول: الحمد للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله على رسوله وآله أجمعين. صدق الله كذلك يقول: ثُمّ كانَ عاقبةَ الذينَ أساؤوا السُّوأى أنْ كَذَّبوا بآياتِ اللهِ وكانُوا بها يَستهزِئُون. أظنَنْتَ يا يزيد حيث أخَذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبَحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هَواناً وبك عليه كرامة؟! وأنّ ذلك لِعِظَم خَطَرِك عنده! فشَمَختَ بأنفِك، ونظرتَ في عِطفِك، جَذلانَ مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مُستَوسِقة، والأمورَ مُتَّسِقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا. مهلاً مهلا! أنَسِيتَ قول الله تعالى: ولا يَحسَبنَّ الذين كفروا أنّما نُملي لَهُم خيرٌ لأنفسِهِم، إنّما نُملي لَهُم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين؟!
ثم قالت في نهايتها:
فإلى الله المشتكى والمعول، وإليه الملجأ والمؤمل.
ثم كد كيدك، واجهد جهدك.
فوالله الذي شرفنا بالوحي والكتاب ، والنبوة والإنتخاب ، لا تدرك أمدنا ، ولا تبلغ غايتنا ، ولا تمحو ذكرنا ، ولا يرحض عنك عارها.
وهل رأيك إلا فند ؟ وأيامك إلا عدد ؟ وجمعك إلا بدد ؟
يوم ينادي المنادي : ألا : لعن الله الظالم العادي .
والحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة ، وختم لأصفيائه بالشهادة ، ببلوغ الإرادة ، ونقلهم إلى الرحمة والرأفة ، والرضوان والمغفرة .
ولم يشق ـ بهم ـ غيرك ، ولا ابتلي ـ بهم ـ سواك .
ونسأله أن يكمل لهم الأجر ، ويجزل لهم الثواب والذخر ، ونسأله حسن الخلافة ، وجميل الإنابة ، إنه رحيم ودود».
لقد انزل الله سكينته على السيدة زينب عليها السلام واسدل عليها الصبر وماكانت اي امراة ان تصبر ولا تستطيع ان تتحمل ماتحملته سليلة العترة الطاهرة تلك المشاهد المؤلمة؛ وهي تنظر الى هول المصيبة التي قتل بيها اهل بيت النبوة ومُثل بهم امام ناظريها.
لقد جرت معركة الاباء كما خُطط لها الوعد الإلهي لتبقى خالدة على مر العصور ؛ والا ماذا تفسر دفن السيدة زينب عليها السلام في دمشق في المكان الذي سبيت فيه بنات رسول الله. المكان الذي لقت فيه اشد المآسي والمحن؛ الا هو ليكون قبرها الشامخ ذكرى لنهاية كل الحكام
والطواغيث الذين يحكمون الشعوب بالحديد والنار وحاربوا اهل البيت وخذلهم الله ورفع كلمته العليا بنصرهم بتلك الشهادة الجميلة كما اسمتها اميرة السبايا.
قتلوا الحسين لكي يسكتوه.. فنطقت عن لسانه زينب, وما استطاعوا اسكاتها.
اضافةتعليق
التعليقات