البعض يتقابلون ويقعون في الحب، ثم يتزوّجون على الفور. آخرون يمضون ساعات في متجر ما يفكرون بسلبيات وإيجابيات شراء جوارب من الصوف بدلاً من القطن! لماذا يتخذ البعض قرارات مهمة بشكل فوري في حين أن البعض الآخر قد يمضي ساعات لاتخاذ قرار ولو بسيط؟!
يفسر علماء النفس هذه الإشكالية بأن هناك زاويتين ينظر الأفراد من خلالهما إلى أمورهم الحياتية، إما عبر منطق «الأسود والأبيض»، حيث تبدو الخيارات واضحة وينصبّ التركيز على جانب واحد فقط، وإما من منطلق «الرمادي»، حيث يقلب الأفراد الأمور من كل جوانبها لاتخاذ قرار ما.
لطالما كانت فكرة الأبيض والأسود ترافقني، لم أكن أحبذ الحلول الوسطى، وطبعًا هذا ليس مدعاة للفخر لأنها ليست طريقة ذكية أبداً لإدارة الحياة. تعلمت أن هناك تدرّجات للرمادي يمكن التنقل بينها بانسيابية ويُسر بل وقد تكون في كثير من الأحيان أكثر طواعية من الوصول للدرجة الخالصة من الأسود أو الأبيض، وهذا مفيد في حالات كثيرة. ولكن مهما حاولنا تطويع طبيعتنا البشرية، نجدها تتمرد علينا في ظروف عديدة، فيغدو التطرف سيد الموقف والعناد إن صح التعبير القائد والقبطان.
فنوضع في مواقف نكون متناقضين فيها بين لونين أو أمرين، مثل قرار لا عودة عنه، أو باب تقفله بإحكام دون مواربة، أو کلام تتفوه به بصدق دون مجاملة، أو موقف بسيط تبني على أساسه سلسلة من التعاملات اللاحقة. وبالمقابل ما يأتيك كنتائج لتلك الاختيارات يكون متطرّفًا كذلك ولا وسط فيه، فتجد الأحزان تدق بابك دفعةً واحدة أو الصعوبات تتحد لتصل إليك من كل حدب وصوب، بل وحتى المرض يأتيك متطرفًا من حيث لا تحتسب ليقعدك دون حراك هازئاً بعمرك وجسدك وأكلك الصحي ومناعتك التي تتفاخر بها.
لقد قيل لي مرات كثيرة وبطريقة تحذيرية حيناً، وتوبيخية أو ناصحة في أحايين أُخر، أن أخرج من دائرة الرمادي، وصُوروها على أنها دائرةٌ من لهب ستحرقني حين أُطيل المكوث فيها. وشُجّعت من ناحية أخرى أن أجد أرضاً تتشح إما بالسواد الداكن والخالص وإما بالبياض الناصع الذي لا تشوبه شائبة، قيل لي إنها أراضٍ آمنة لا ضرر فيها ولا ضرار وإنني فيها سأجدُ السكينة والسلام المطلق، ولكن مما كان يُثير الغرابة إنني كنتُ أستمع لهم بينما أنا هناك في أرضي الرمادية بكافة تدرجاتها، مبتهجة أكثر منهم، ويكادُ قلبي يطير لخفّته... لكنّي أعود في بعض المواقف فأجدُ الرماديّ متعب وأحتاج لوناً أكثر وضوحاً، فهل يتحدد اللون الذي نختاره وفق الوضع الذي نمر به؟
هل يُعد التطرف بين الأبيض والأسود قراراً قاسياً؟ وهل الراحة التي يبثها الرماديّ مخادعة؟ أظن أن الأمر يتحدد وفق المشكلة أو القرار التي توشك على اتخاذه، فلا يمكن أن لا يكون قرارك واضحاً بشأن أمور مصيرية مثل العمل او الزواج او الإنجاب، كما لا يعقل ان تكون شديد الحزم والحدّة في مشكلة بسيطة حدثت مع احد افراد عائلتك! إن اتباع نظام اللونين المتناقضين قد يجعلك اما ابيض سهل ومطواع ولا ترفض طلباً او اسود قاتم وحديّ ولا يألف الآخر، وهنا ينشأ تدرّج لونيّ تحتاجه كيلا تقطع علاقتك بأخيك بعد مشكلة بينكم، ولا تسكت عن حقك وتوضح له ما ازعجك منه. لكن في قرار الزواج مثلاً، هل ينفع ان تكون رمادياً؟ هنا يُفترض عليك وبقوّة ان تكون اسود او ابيض في اتخاذ هذه الخطوة، سيخدمك الرماديّ لاحقاً في المشاكل التي ستقع بينك وبين الشريك.
إن الأشخاص الذين لديهم حاجة قوية للوصول إلى نتائج في موقف ما يميلون أكثر إلى التفكير بأسلوب «الأسود والأبيض»، أما الأشخاص المتناقضون فيميلون لأن يكونوا أكثر راحة مع اللاحتمية في مواقفهم.
من ناحية أخرى، بسبب آرائهم السلبية جداً أو الإيجابية جداً، فإن الذين يفكرون بأسلوب «الأسود والأبيض» يميلون إلى أن يكونوا أسرع في اتخاذ القرارات من المتناقضين. ولكن إن غرقوا في التركيز في نقطة واحدة دون سواها قد يميلون إلى العنف أو إلى أفكار أو سلوكيات غير جيدة. فالذين يعانون من الاكتئاب مثلاً، غالباً ما يغرقون في وجهة نظر واحدة وسلبية عن العالم. وقد يفسرون أي عمل بشكل سلبي، كأن يفسروا عدم تلويح صديقهم لهم بأن صديقهم غاضب منهم. وهؤلاء لديهم صعوبة في التفكير بتفسيرات بديلة.
أما الأفراد المتناقضون فيميلون إلى التقييم المنهجي لمختلف جوانب الموضوع قبل التوصل إلى قرار. فيدققون بحذر في الأدلة المقدمة إليهم، ويصنعون لائحة بالإيجابيات والسلبيات، رافضين المعلومات المبسطة.
خُلاصة الأمر ان العالم لا يسير وفق طريقة واحدة، الألوان كثيرة وكذلك المواقف والأحداث التي نتعرض لها كل يوم، ضع كل التدرجات اللونية في جعبتك، واخرج اللون المناسب في الوقت المناسب، وهكذا سوف تدرّب نفسك على إدارة حياتك بطريقة ذكية، في المرة القادمة قد تضع كل الألوان جانباً وتحتاج لوناً احمر ساطع، من يدري!.
اضافةتعليق
التعليقات