ها هو لساني يرتل حروف الشكر، معلنا أداء فرض العرفان للمنعم الكريم، الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة.. لكن ما بال حروف شكري لا ترتقي للسماء كعادتها؟ كأني أراها متثاقلة تجر أذيالها مرغمة، ما الذي يدعوها للتكاسل والارتخاء ياترى؟ أتراها تعبت من السمو والارتقاء فآثرت البقاء بجانبي؟ أم تراها استكانت فالتصقت بحبات مسبحتي وتملصت عن دورها الملكوتي؟!
بقيتُ حبيسة حيرتي هذه، حتى وجدتني ألوذ بكتاب ربي، فطفقت أقلّب صفحاته النورانية عسى أن تهديني لمرادي وتخرجني من طوق حيرتي، وفجأة وقع بصري على آيات سورة سبأ المباركة، فبدأت أرتّل آياتها آية فآية، حتى وصلت إلى هذه الآية الكريمة: (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.)(١)
عجبا لها ما أعظمها من آية؟! وما أزكاها من نعمة دالّة على شكر المعبود؟ وما أجلّها من بوصلة ربّانية تأخذ بأيدي التائهين نحو ساحة العرفان، فتبصرهم بمواقع الفضل والشكر معا.
فالشكر الذي أشارت إليه هذه الآية، لو كان مقصوداً به الشكر باللسان لما كانت هناك أدنى مشكلة، ولمّا كان العاملون به قليلين، ولكن المقصود هو الشكر العملي.
إلا إنّ من المؤكد أنّ شكر الله سبحانه وتعالى يتحقق من خلال عدة أُمور منها:
١/ معرفة النِّعَم التي أنعم الله -عز وجل- بها على عباده، وتقديرها والتفكّر بها، فالنعم كثيرة وينبغي على العبد أن يتعرف على نعم الله لديه، ولكن الحذر ثم الحذر من احصائها، لأنه مهما أوتي الانسان من قوة وإحاطة فإنه يبقى عاجزا عن احصائها (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها)، فليستخدمها بما يُرضي الواهب الرزاق الذي منحها وأعطاها للبشر.
٢/ العلم بأنّ الله سبحانه منحها بفضله على عباده؛ وليس لأنهم يستحقّون تلك النعم دون غيرهم.
٣/إضافة النِّعم إلى الله سبحانه، وشكره عليها باللِّسان، والاعتراف بها بالقلب، والعمل بها بالجوارح، والالتزام بأدعية الشكر..
قال بعض العلماء: إنّ للشكر ثلاثة مراحل: الشكر بالقلب: بتصوّر النعمة والرضى والسرور بها.
والشكر باللسان: بالحمد والثناء على المنعم.
الشكر بسائر الأعضاء والجوارح: وذلك بتطبيق الأعمال مع متطلّبات تلك النعمة.
وكما نعرف أن كلمة "شكور": هي صيغة مبالغة.. ويعبّر بها عن كثرة الشكر ودوامه بالقلب واللسان والأعضاء والجوارح.
ثم عدتُ لنفسي وقلت: إذن الشكر لن يتحقق بكثرة الترديد باللسان في كل آن، ما لم يكن مقرونا بشكر الله عبر العبادة والطاعة وكل عمل صالح يرضي الإله.
"إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور".
إنها دعوة إلهية لكل من كثر صبره في جنب الله، وكل من كثر شكره لخالقه، لا تكتفوا بشكر اللسان فإنه لن يوصلكم إلى ساحة العرفان .
فلنعبد الله شكرا لنعمه، ولنعلم يقينا أن الشكر لله عمل قائم بذاته، لا يؤتاه إلا ذو حظ من الإيمان عظيم.
اضافةتعليق
التعليقات