هل كانت تلك الضربة المشؤومة من يد ذلك الشقي هي أول ضربة تُسدد إلى رأس أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ أم سبقتها ضربات وضربات قاسية وموجعة تحمّلها بصبر لا تطيق الجبال الرواسي حمل بعضه!
في نص للشيخ المفيد قال فيه: "كانت إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثين سنة، منها أربعة وعشرون سنة وأشهر ممنوعا من التصرف في أحكامها مستعملا للتقية والمداراة، ومنها خمس سنين وستة أشهر ممتحنا بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين ومضطهدا بفتن الضالين" .
في هذا النص المختصر لخّص الشيخ المفيد الظلم الذي وقع على الإمام علي (عليه السلام) والمعاناة التي امتُحن بها بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) .
فأول ضربة سُددت لرأس علي (عليه السلام) عندما غصبوا حقه، وأبعدوه عن المنصب الذي اختاره الله له، ذلك الظلم الفادح الذي تجرعه صابرا، مداريا، مسالما للغاصبين ببسالة تضاهي بسالته في ميدان الحرب!. وقد عبّر (عليه السلام) عن صبره بشقشقته عندما قال: "فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا".
وأُلحِق بضربة أخرى عندما لم يكتفي الغاصبون بإزالته عن منصبه الإلهي؛ بل همّشوه، وأقصوه عامدين عن كل دور مهم في الأمة، ماعدا تلك المواقف التي كانوا يفزعون فيها إليه مستشيرين عندما تضطرهم الحاجة، ويعوزهم الرأي السديد حتى كادت الأمة تنسى عليّها، وبطلها الذي أرسى لها معالم الدين، وبسيفه دانت لها الأمم، فذهب الجيل الغاضب، وجاء جيل آخر لا يعرف عليا، ولم يسمع حديثا نبويا يشيد بمناقبه وفضائله بعد أن حوربت سنة الرسول (صلى الله عليه وآله) وغُيّبت عن ذاكرة الأمة؛ ونشأ جيل جديد لا يعرف سوى قادة الفتوحات والولاة الجدد الذين صعدوا على أكتاف علي، وسرقوا أمجاده، وقد ذكر الإمام (عليه السلام) هذا التغييب بقوله: "فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين؛ فكنا نحن ممن خمل ذكره، وخبت ناره، وانقطع صوته وصيته، حتى أكل الدهر علينا وشرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها، ومات كثير ممن يعرف، ونشأ كثير ممن لا يعرف".
نعم نشأ كثيرون لا يعرفون عليا، ولم يسمعوا بسابقته في الدين، وجهاده وخدماته الجليلة للإسلام، ولم يعوا حديثا واحدا في ذكر فضائله، وهذه ضربة موجعة لقلب علي، وقتلا معنويا لشخصيته بأبشع صورة!.
وتمادت الأمة في توجيه الضربات له من خلال بغضه، والعداوة الشرسة له إلا القليل من وفى لرعاية الحق وثبت عليه؛ وقد سأل رجل الإمام السجاد (عليه السلام) متعجبا: ما أشد بغض قريش لأبيك! قال: "لأنه أورد أولهم النار، وألزم آخرهم العار ".
لم تستطع قريش أن تنسى لعلي قتل شيوخها وسادتها في بدر وحنين والأحزاب وغيرها من غزوات الإسلام، ولم تغفر له هذه الخطيئة الكبرى "فأضبّت على عداوته، وأكبّت على منابذته" .
لم يشفع له أنه قتلهم بسيف رسول الله نصرة للحق، ورغبة في مرضاة لله تعالى، وإعلاء لدينه، وقد قالها عثمان لعلي بصراحة تامة، ووضوح سافر: "ما ذنبي إن لم تحبك قريش وقد قتلت منهم سبعين رجلا كأنّ وجوههم سيوف الذهب"؟!
ثم توالت عليه الضربات بعد أن آلت إليه الخلافة بانتخاب جماهيري لم يسبق له مثيل، وقد رفض بيعتهم عندما انثال عليه الناس لعلمه بأن الأمة لن ترضى بطريقته في إدارة الأمور، ولن تتبنى رؤيته في الحكم والخلافة؛ فواجه الجماهير المتحمسة بموقفه الرافض: "دعوني والتمسوا غيرِي ... وأَنا لكم وزيراً، خيرٌ لكم مني أَميرا "!.
وقضى بعدها مدة حكمه القصيرة منتقلا من حرب إلى أخرى، ومن فتنة إلى أشد منها؛ وكما ذكر عليه السلام: " فلمَّا نهضتُ بالأمر نكثتْ طائفة ومرقتْ أخرى وقسطَ آخرون" .
واستمرت الضربات تُسدد له بلا هوادة ولا رحمة، حتى صار ينتظر ضربة أشقاها، ويترّقبها بشوق لتنتهي معاناته الطويلة، ويغادر أمة ما عرفته حق معرفته، ولم تضعه بالمنزلة التي وضعه الله فيها، وطالما ردد ما يعبّر عن انتظاره وشوقه للقاء ربه، ما يكشف بوضوح عن مقدار ألمه والمرارة التي يشعر بها من خذلان الأمة كقوله: "أما والله لوددت أن ربّي قد أخرجني من بين أظهركم إلى رضوانه، وإن المنيّة لترصدني، فما يمنع أشقاها أن يخضبها؟ وأشار بيده إلى رأسه ولحيته" .
وفي ليلة الفجيعة انبعث أشقاها ليخضّب لحيته المباركة بدم رأسه الشريف بضربة لعينة كانت خاتمة المطاف لتوالي الضربات، تلك الضربة التي اقترنت بهتاف مقرون بقسم يعلن للكون نصره الباهر، ويؤكد فوزه الأبدي: "فزت ورب الكعبة".
اضافةتعليق
التعليقات