قال تعالى: {والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}(الشعراء:٨١)، هذه الآية واحدة من الآيات التي أمر الله تعالى نبيه الخاتم في سورة الشعراء بأن يتلوها علينا، وينبئنا بأحوال سيدنا إبراهيم (عليه السلام) التي فيها، وهنا نريد أن نضيئ قلوبنا بنور هذه الآية لنزداد إيمانًا ويقينًا.
إذ أن مفتاح هذه الإضاءة هو جواب تساؤل يمكن أن يُطرح عن علة تقديم ذِكر الاماتة على الإحياء فيها، وهذا الجواب يكمن في أن الآية -كما يبدو- تريدنا أن نتعرف على مستويات ثلاث من علاقة النفس الإنسانية بفكرة الموت والحياة وما يترتب عليها من آثار عملية…
المستوى الأول والأعلى إيماناً ويقينا المتمثل بني الله إبراهيم (عليه السلام) فقد وصل إلى ادراك من هو المحيِ الخالق بدءً فتوصل الى حقيقة من هو الذي بيده اماتته، فقدم ذكر الموت على الحياة، لكون أن القادر على أحيائنا إبتداءً لهو قادر على اماتتنا، فهذا المحي ليس فقط يحيينا ثم يميتنا بل هو قادر على احيائنا مرة أخرى، يعني أن هناك حياة تنتظرنا غير هذه الحياة التي نعيشها في الدنيا وسنخلد بها بعد الممات، ولأجلها سيكون الإنسان مدرك لقيمة وهدفية وجوده هنا، وكيف عليه أن ينجح في هذه الحياة ليعبر بسلام إلى تلك..
فإدراك هذه الحقيقة تجعل الطريق واضحاً أمام الإنسان وتَقبُل وتخطي العقبات والمعوقات أسهل مهما كانت وأيًا كانت، فالنبي أبراهيم (عليه السلام) قال هذه الآية وهو في قمة الصراع بينه وبين من يريد أن يؤدي تكليفه معهم، لذا قال بعدها {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}، فقد كان نظره ليس على ما في هذه الرحلة من تعب ومشاق بل على ما ينتظره بعدها من فوز وفلاح.
اما الصنف الثاني - وهو أيضا يمكن أن نعرفه من التقديم الذي جاء على لسان نبي الله (عليه السلام) - ففي قوله إشارة ووصف لطبيعة البشرية، فالإنسان بطبيعته يفكر بدءً بالمستقبل ويخاف مما هو قادم والذي هو عادةً مجهول عنده، فنحن لأننا ننعم بالحياة لا نفكر ابتداء بشكرها بل نفكر بما قد يجعلنا نفقدها ألا وهو الموت! ولكن حتى هذا المستوى من التفكير هو ممدوح إن كان موجب لتحفيز الإنسان على طلب الكمال والتزود لما بعد هذه الحياة.
فما يميز الإنسان المؤمن هي هذه النقطة أنه يدرك أن بعد الموت حياة تحتاج الى زاد بينما غير المؤمن هو لا يؤمن بذلك، فمما ينقل كمثال واقعي "إن بعض الأطباء في عالم الغرب لما يصلوا إلى مرحلة عجز في شفاء مريضهم ويحددون موعد موته كأن تكون بعد أيام، هم يعتبرون أن انتظار ذلك يُعد نوع من أنواع التعذيب النفسي فيعطونه دواء أو حقنة مما يُعجل بموته قبل ذلك الموعد ودون ألم"، وهذا ناشئ من أنهم يعتبرون الموت فناء لا شيء بعده!
بينما الذي يؤمن أن هناك حياة بعد الموت هو يعتبر أيام مرضه هذه والتي تفصله عن الرحيل فرصة أخيره له للتزود، بل وفرصة أمل أن يكتب له تعالى في كل لحظة عمراً جديدًا فلعله يطيل بعمره ويشفيه، فالموت والحياة علمهما عند الله تعالى وتقديرهما منه عز وجل، لذا المؤمن لا يوجد عنده يأس أو فقدان أمل ولو انقطعت به كل الأسباب المادية، وهذا خزين معنوي ونفسي لا يملكه إلا أهل الإيمان بالمُميت المُحيي، وأثر ذلك إنه لا يكف أو يتوقف عن السعي لبناء تلك الدار والتزود لها.
أما الصنف الثالث الذي هو ممن يؤمن بالموت ولديه يقين بوجود حياة بعده، لكنه لا يرتب أثر، لأن إيمانه ليس بكامل ويقينه ليس بفاعل، وهذا من اشد الناس حسرة وخسران، لأنه رأى الطريق ولم يسير به، عرف الوجهة ولم يقصدها!!
ختامًا: اليقين الإبراهيمي الذي نستلهمه من قوله هذا هو إن فكرة الإيمان بالموت واليقين بأن هناك حياة أخرى تنتظرنا هي فكرة أمل وحافز لا فكرة يأس وتكاسل، متى ما كنا نحن أيضا ننتظرها.
اضافةتعليق
التعليقات