تزورنا المصائب بين الفينة والأخرى تكبل أفواهنا بمئات الأقفال حتى نظن أن لازوال لها ولكن يكون زوالها بعد أيام قليلة مهما عظمت وأنهكت الجسد وحولته إلى أحشاء، إلا فاجعة تزورنا كل عام وكأنها حدثت تواً وهي إلى القيامة باقية، تزداد النقود من حيث لا نعلم وتتوسع الصدور كيف لا ندري حتى يصبح المكان الذي يسع فرداً باسطاً ذراعيه ليحتوي منهم ألفاً دونما ضيق بشكل لا يصدق، ليقف العالم مذهولا كيف اتسعت دار كربلاء لكل هذا العدد وكأنها دار واحدة ببلد، تقام فيه المجالس بمشاعر عميقة وحب حقيقي لا يشوبه شائبة.
دار الحسين تبسط ذراعيها
حدث تاريخي هز عروش الظالمين وصار فداء يستصرخ الشرفاء من العالم على مر العصور والأزمان وهو يقول: (ألا من ناصر ينصرنا)، نعم إنه الحسين بن علي (عليهما السلام) وسبط الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وريحانته فلذة كبد البتول فاطمة (سلام الله عليها)، لقد كان الحدث قصيراً في حسابات المادة لا يتجاوز اليوم الواحد، ولكن صار حدثاً سرمدياً يفعله المعتدي في ضمير الأمة الإسلامية، حدثا تخلد في جوف النفوس وتجول في شرايين هذه الأمة حتى طغى على محبيه فنطقوه كرما وأمانة ووقفوا يصرخون هنا خدامك يامولاي دون أن يجبرهم أحد، لتصبح كربلاء كخلية نحل الكل يعمل حسب اختصاصه فذلك جاء بالسواد ليطغي مسحة الحزن على جو المدينة وآخرين شيدوا في بعض الساحات التكايا والهيئات الحسينية مذكرين بفاجعة أهل البيت (عليهم السلام)، والجميع نسيَ عزائه وأقام في كبده عزاء سيد الشهداء.
وكلنا طرقنا باب الحسين اليوم ونأمل أن ندخل بيته فتفيض أرواحنا من عطائه على قدر مساعينا لنخرج من داره ونحن بجوهر آخر وهو أمل كل عام نسعى إليه، ذلك التغيير الجوهري هو الهدف من المجالس الحسينية، هي أن يخرج الإنسان بتغيير في ذاته من خلال محاولة تغيير للملكات الفاسدة في أعماق النفس فمن علامات القبول بعد عاشوراء: أن يخرج الإنسان بانقلاب جوهري، وأن يخرج بالاستغفار، فالبعض لهم هاجس جفاف الدمعة، يخشى أن يأتي محرم، وفي ليلة عاشوراء لا تذرف لهُ دمعة، نعم، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما جفّت الدموع؛ إلاّ لقسوة القلوب، وما قست القلوب، إلاّ لكثرة الذنوب).
المؤمن لابدَ أن يستغفر ربهُ هذهِ الأيام لئلا يبتلى بجفاف الدمعة، هذهِ الأيام أيام جريان دموع أهل البيت (عليهم السلام) فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): (إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام)، وها نحن سيدي منتظرين على أبوابك راجين شفاعة من لدنك ماضون على نهج المقاومة الحسينيّة في مقارعة الطغاة والمستكبرين مجددين عهدنا مع الشهداء الذين قدّموا دماءهم الزكيّة على طريق الله والحق والحرية من أجل الدين والاستقامة، رافعين الأعلام سائرين من ديارك إلى قرارك على وجوهنا سحنة العزاء قد بانت.
كما قال الشاعر محمود الهاشمي:
بلى نحنُ في عاشوْرَ نبكي ونخشعُ
وننشُر أعلامَ الولاءِ ونرفعُ
نقيمُ مراسيمَ العزاءِ ونرتقي
منابرَ ما دمنا ودامَ التوجّعُ
ونقرأُ آيَ الطفِ في كلّ لوعةٍ
كأن الحسينَ (اليوم) في الطفِ يُصرعُ
مواكبُ تترى لاحدودَ لعدّها
تضيقُ بها الآفاقُ طراً وتوسعُ
ماضون ياسيدي ونحن حاملين هذه الأمانة الثقيلة في الماضي والحاضر، تلك الأمانة التي أول مَن حملها وأحياها الإمام زين العابدين (عليه السلام) وزينب (عليها السلام) وبنات الرسالة في الكوفة وفي الشام، حينما أقاموا العزاء والبكاء على شهداء كربلاء، وأبدلوا أفراح الأمويين مأتماً ببكائهم وندبهم (حتّى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام)، فذات البكاء على الحسين (عليه السلام) يؤرّق يزيد ومَن هو على شاكلته ونهجه، وكذلك الإمام الرضا (عليه السلام) يخاطب الريان بن شبيب بقوله: ((يا بن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين (عليه السلام)، فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم من الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون السبع لقتله.
يا بن شبيب، إن بكيت على الحسين (عليه السلام) حتّى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً.
يا بن شبيب، إن سَرَّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجنان، فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا)).
اضافةتعليق
التعليقات